تسعير المشاريع والطفرة (1 من 3)

نتيجة لارتفاع أسعار البترول، نعيش حالياً فترة طفرة جديدة، حيث تحصلت المملكة على وفورات مالية جراء زيادة الدخل من مبيعات البترول بأسعار مرتفعة، وفورات قد تكون تاريخية، كما أنها قد لا تتكرر، ما يثير تساؤلات حول الطريقة المثلى لاستثمار هذه الوفورات، بين الإنفاق على مشاريع وغيرها أو استثمارها لمصلحة الأجيال القادمة، وبما يحقق أفضل وأكبر عائد من هذه الاستثمارات. حالياً، هناك توجه كبير لتخصيص جزء من هذه الوفورات للإنفاق على مشاريع عملاقة في جميع المجالات مثل تطوير التعليم والصحة والطرق والقطارات والجامعات والمدارس وغيرها.
وبنظرة متأنية وشاملة للمشاريع الحالية من حيث مدى تكامل وجاهزية عناصر العملية الإنتاجية من بنية تحتية وموارد بشرية وقطاع خاص محلي، ومن حيث التنسيق والتكامل بين الجهات الحكومية كل فيما يخصه، ومن حيث معقولية وتوقيت وجدولة تكلفة هذه المشاريع على ميزانية الدولة، سواءً ما يخص التكاليف الرأسمالية أو تكاليف الصيانة والتشغيل أو ارتفاع أسعار الترسية, التي وصل فيها أن أصبحت المليارات أرقاماً متداولة بالنسبة للمشاريع، ومن حيث الوقت اللازم والطبيعي لتنفيذ مثل هذه المشاريع ومدى تطبيق منهجية تنفيذ وتشغيل وصيانة المشاريع على أساس المراحل، ومن حيث وجود مرجعية واحدة للإشراف ومراقبة ومتابعة مثل هذه المشاريع، ومن حيث المخاطر المحيطة والمتوقعة عند تنفيذ مثل هذه المشاريع بالتكاليف العالية وخلال جدول زمني محدود، نجد أن طريقة العمل والتسعير الحالية تكلف الدولة والوطن أعباء مالية وإدارية إضافية ومكلفة، منها، على سبيل المثال، التكاليف الباهظة لتملك الأصول من هذه المشاريع على الدولة في المستقبل، خاصة مصروفات الصيانة والتشغيل.
إذا أخذنا مشروع بناء مدينة طبية أو جامعة على سبيل المثال، فإنه من السهل بناء المباني والمعامل والطرق وتوفير التأثيث، وبشكل سريع وعن طريق شركات وخبرات أجنبية، لكنه من الصعب تجهيز الموارد البشرية الفنية والإدارية المؤهلة (المحلية) لإدارة وتشغيل المرافق الصحية للمدينة الطبية. وهذا يعني أنه عند التخطيط للمشاريع، فإننا يجب أن نخطط وبشكل متواز لجميع عناصر المشروع المطلوبة لإدارة وتشغيل المشروع بعد اكتماله، وليس فقط التركيز على البنية التحتية كمبنى أو سكة حديد أو مطار وغيرها، وهي الأسهل في التنفيذ. فهناك مشاريع اكتملت لكن يتم تأجيل تسلّمها من الجهات المسؤولة بسبب عدم جاهزيتها لتشغيل هذه المشاريع، فعلى سبيل المثال، أثناء العمل على تنفيذ بعض المعامل التي تكلف الدولة عشرات الملايين بخلاف مصروفات التشغيل والصيانة السنوية، وعند اقتراب انتهاء تجهيزها، طلبت الشركة المنفذة توفير فريق العمل المخصص لتشغيل هذه المعامل لتدريبهم على أجهزة المعامل، لكنهم فوجئوا من الإدارة المعنية بأنه لا يوجد حتى الآن فنيون مخصصون للعمل في هذه المعامل، فهل نجح المشروع؟ وهل تم تحقيق أفضل استثمار للمبالغ المنفقة على المشروع؟
أيضاً، من متطلبات التكامل في التخطيط للمشاريع، اختيار المكان والزمان المناسبين عند تنفيذ المشاريع، فعملية توافر أرض، لا يعني ضرورة تنفيذ كل أنواع المشاريع فيها، فلو أخذنا موقع بعض المشاريع، لوجدنا وجود احتمال كبير لحدوث اختناقات مرورية في المستقبل، مثل المشاريع القريبة من المطار. في الطفرة الأولى، لم نستفد من وجود شركات عالمية في قطاع المقاولات لنقل الخبرة وبناء قطاع مقاولات محلي قوي ومنافس، وها نحن نعيش التجربة نفسها، فما زلنا نعتمد على شركات وعناصر هندسية وفنية أجنبية، وهذا يشمل شركات المقاولات المحلية، التي قد تكون ملكيتها جزئياً محلية، إلا أنها تعتمد كلياً على العناصر الأجنبية، ما يؤكد أننا، وعلى مدى ثلاثة عقود، لم نتعلم الدرس جيداً.
ما نراه حالياً من تضخم في تكاليف المشاريع إلى مليارات الريالات يتطلب دراسة وتقييما لتحديد مدى عدالة هذه الأسعار ومعقوليتها من ناحية، وتأثير تنامي هذه الظاهرة في تسعير المشاريع الأخرى، لتصبح ثقافة سائدة في تحديد التكاليف من قبل الجهات الحكومية. قد يكون من الضروري وضع معايير لتحديد التكاليف المقبولة والعادلة للمشاريع مع تحديثها بشكل دوري وحسب التغيرات في السوق، بحيث تستخدم هذه المعايير لتقييم مدى عدالة عروض الشركات المتقدمة على المشاريع، على أن يتم تطوير معايير لكل نوع من أنواع المشاريع، مثل تكلفة الطول المتري للطرق، وتكلفة المتر المربع للإنشاءات، وتكلفة الطول المتري لسكك الحديد، كما يتم توفير هذه المعلومات ونشرها للجميع. ويمكن أيضاً، استخدام المقارنة بمشاريع مماثلة في دول مختلفة، مثل تكلفة إنشاء مطار دبي الدولي، وتكلفة إنشاء ملعب كرة قدم دولي في جنوب إفريقيا، وتكلفة إنشاء مترو في مصر. وحتى لو تم استثناء أي مشروع من الإجراءات التقليدية، من طرح المشروع للمنافسة وتقييم العروض، لسبب أو لآخر، فمن الضروري الالتزام بهذه المعايير لبقية المشاريع، وعدم ترك إتاحة الفرصة لبعض الجهات الحكومية بمقارنة أسعار مشاريعهم بالمشاريع المستثناة، حتى لا تتضخم تكاليف المشاريع وأعدادها كما هو حاصل الآن.
وقد تتحمل وزارة المالية مسؤولية كبيرة في هذا الشأن، وهي تقوم بجهود طيبة، من خلال ذراعها الاستثمارية مؤسسة النقد، فيما يخص استثمار جزء من الفائض في الأسواق المالية الدولية، إلا أنه في ظل تنامي زيادة الإنفاق على المشاريع الحكومية وتنامي ظاهرة ارتفاع أسعار المشاريع، قد يكون من الضروري قيام وزارة المالية بكل ما يلزم من إجراءات رقابية إضافية لترشيد مصروفات الدولة وتحديد أولويات الصرف وجدولة الصرف بما يحقق أعلى عائد لاستثمارات الدولة، مع إعادة جدولة المشاريع من خلال توزيعها على مراحل، فبدلاً من تنفيذ مشروع معين خلال ثلاث سنوات، يمكن تنفيذه، وبشكل أفضل، خلال عشر سنوات، ما يحسن العائد من الاستثمار.

وللحديث بقية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي