Author

حول مفهوم اللجان العمالية

|
كان لجهد العمال الجسدي والفكري، الأثر الأكبر في بناء الحضارات، مع ما خالط ذلك من أنواع الاستغلال التي تعرضوا لها، بخاصة في عصر النهضة الأوروبية، ما أدى إلى ظهور عدد من الهيئات والنقابات العمالية، التي رفعت لواء الدفاع عن العمال، وطالبت بتحسين ظروف العمل. وإذا كانت المجتمعات الإسلامية لم تُعَرِّف ''العامل'' بمفهومه الحديث إلا لاحقاً، يبقى أن الإسلام كرّم العامل، واعترف بحقوقه لأول مرة في تاريخ العمل، بعد أن كان معناه الرق والتبعية، أو المذلة والهوان، ويكفي أن أجر العامل ورد في القرآن في 150 موضعاً، والأحاديث الثابتة في هذا الموضوع أكثر من أن تُحصى! على الصعيد الوطني، يمكن أن نلمس ما تحقق على صعيد العمل والعمال في المملكة العربية السعودية، خلال الخطط التنموية المتتابعة للدولة، التي أثمرت إيجاد سوق عمل سعودي نشط، ساعد على تخريج الكفاءات السعودية، إلى جانب غير السعوديين الذين ساهموا في تطوير هذا السوق، وتعددت المؤسسات التي ساهمت في تحقيقه، كمجلس القوى العاملة، وصندوق تنمية الموارد البشرية، والكليات التقنية والمهنية، والمعاهد الحكومية والأهلية للتدريب، والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، التي تضطلع بدور حماية العمال من العوز أو الإصابات المهنية، وكذلك خدمات الضمان الاجتماعي، وغير ذلك.. التي تهدف إلى تأمين حياة كريمة لسائر العمال. وفي ذات السياق، وتتويجاً لما سبق، وكون المملكة عضواً فاعلاً في عدد من المنظمات الدولية والإقليمية التي تعنى بشؤون العمل والعمال، كمنظمة العمل الدولية، ومنظمة العمل العربية، صدرت تشريعات كريمة تدعم دور المجتمع المدني، من ضمنها موافقة مجلس الوزراء في محرم 1422على قواعد تشكيل لجان عمالية في سائر المنشآت، حددت لها أهدافاً تشمل جميع النواحي التي تخص حياة العامل العملية والصحية والاجتماعية والثقافية والتدريبية.. على أن تقوم هذه اللجان، المُنتَخَبَة من العمال أنفسهم، بمراعاة هذه الأهداف عملاً وتطويراً، ورفع توصياتها إلى إدارات المنشآت حول الأمور المتعلقة بظروف العمال والإنتاج، وسبل تطويرها، تحت إشراف وزارة العمل، وأصحاب المنشآت، في سبيل رفع القدرة التنافسية في الإنتاج الوطني. صحيح أن هذه اللجان لم تتبلور شخصيتها بشكل واضح، ولا يزال نشاطها دون المستوى المطلوب، كذلك لا تزال الكتابات حولها، القليلة جداً، تميل نحو التشاؤم في نجاحها، إلا أن مجرد تشكلها وانطلاقها، يعتبر خطوة بناءة في مصلحة العمال وأرباب العمل والحكومة، لا بل الوطن عامة. هذه اللجان، لا تزال تنتظر الخطوات اللاحقة لوزارة العمل في دعمها، وكذلك دور المنشآت، لتثبيت شخصيتها، كجهاز استشاري يطمح لزيادة إنتاجية المنشآت، الذي سينعكس إيجاباً على منافع العمال. ولن تستطيع هذه اللجان تحقيق أهدافها إلا حين تتبدل النظرة الحالية لمهامها، من نظرة: ''عدو'' طارئ على المنشآت، أو ''منافس'' لمكاتب العمل، إلى نظرة: ''الجهاز الوطني الاستشاري''، المساهم في التنمية الوطنية، المُتَفَهم لما يدور في بيئة العمل، وكحلقة وصل بين مُنتَخبيه من العمال والمنشأة من جهة، ومشارك لوزارة العمل والمؤسسات ذات الصلة وبين العمال من جهة أخرى. وهذا لن يتحقق إلا بعد إعادة النظر في مفهوم هذه اللجان، الذي اتخذ، في التاريخ العمالي الحديث والمعاصر، أبعاداً أيديولوجية وعقائدية متنوعة، مغايرة في بعض أساسياتها للفهم الإسلامي، وكذلك إعادة النظر في المفهوم الآخر الذي يرى في هذه اللجان معيقاً لحركة رأس المال والتقدم الاقتصادي والحضاري، ومفهوم ثالث مُستَحدث التزم التنمية بالتقنية على حساب العنصر البشر. سيطرة هذه المفاهيم الثلاثة، أو أحدهما، مرفوضة نقلاً وعقلاً، أما المقبول فهو التعاون فيما بينها على قاعدة الأصول العامة للشريعة الإسلامية، للخروج بمفهوم آخر ذاتي مستقل، على قاعدة: ''لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ''. فمفهوم اللجان العمالية، مفهوم شائك ومتشعب، يلزمه التحديد، كونه كسائر المفاهيم التي تعالج مستويات الإنسان المُعقدة، يحتمل الكثير من التفسيرات، مع الجزم هنا بأن مفهوم اللجان العمالية في المملكة العربية السعودية مفهوم مستقل متفرد، قد تكون نخب التقنية أثرت في حيثياته، إلا أنه قطعاً لا ينتمي للاشتراكية ولا للرأسمالية، إنه مفهوم موجود في ثقافتنا وتشريعاتنا ومبادئنا، وله خصوصياته في الثقافة المحلية، التي يلزمها مزيداً من الاجتهاد، ومن ثم التقنين، ولا ضير هنا من الاستعانة ببعض الآليات أو التقنيات التي سبقنا إليها الآخر في سبيل بلورة هذا المفهوم، فنحن نستطيع أسلمة ما لا يتعارض مع المنهج الإسلامي، لاستيعاب مهمة هذه اللجان، كمهمة دينية، إنسانية واقتصادية واجتماعية ونفسية، وحتى أمنية.
إنشرها