«بلاش تاكل بامية»!

يبدو أن اهتمام الآخرين في الخارج بالسوق السعودية ومتابعتها لم يعد يقتصر على المال والأعمال، بل امتد إلى جوانب ذات طابع محلي بحت كأسعار الخضراوات، والخدمات، وغيرها. ولعل ما يجذب انتباه المراقبين في الخارج إلى تلك القضايا الكم الهائل لما يكتب عنها في الصحافة والمنتديات الإلكترونية ووسائل الإعلام الأخرى. لذا لم يكن مفاجئا لي أن يسألني صديق عربي مقيم في إحدى الدول الأوروبية عن أزمة الطماطم في السعودية وأسباب ارتفاع أسعارها في الآونة الأخيرة. بالطبع لا أعرف جوابا مقنعا لسؤاله، غير أنني لم أدع الحديث ينتهي هناك، إذ عادت بي الذاكرة إلى موقف اختزنته منذ نحو 40 عاما.
الكثير منا لا بد أن يتذكر الطفرة الأولى في التسعينيات من القرن الهجري الماضي، وما واجهته برامج التنمية يومئذ من عوائق. من بين أهم تلك المعوقات كانت خدمة الاتصالات سواء داخل المدن أو بين المدن، إذ كانت تلك الخدمة تعد مفقودة بكل المعايير. وربما يتذكر البعض أيضا ما وصلت إليه الحال من مشقة ووساطات كانت تبذل لدى كبار مسؤولي وزارة البرق والبريد والهاتف لتوجيه مذكرة، لا أكثر، إلى مقاول الشبكة في الرياض أو جدة لتركيب خط هاتفي لفلان أو فلان. ومن المقولات اللطيفة التي كانت تردد في تلك الأيام أن ''الصفر لا قيمة له إلا في وزارة البرق''! وربما من فضول القول أن نسجل هنا أن تلك المشكلة عولجت بشكل جذري من خلال مشروع توسعة غير مسبوقة في خطوط الهاتف، إثر سلخ مهام البرق والبريد والهاتف من وزارة المواصلات وإسنادها إلى وزارة مستقلة في 8/10/1395هـ.
تلك الخطوة سبقتها خطوة أخرى كبرى كانت ضرورية للإفادة من أي توسعة لاحقة لشبكات الهاتف في المملكة بشكل فاعل. إذ إن الاتصال بين مدن المملكة الرئيسة في تلك الفترة كان لا يزال عبر خطوط هوائية معلقة ذات سعات محدودة وعرضة للعطل بشكل مفاجئ ومتكرر. وكان على الراغب في الاتصال هاتفيا بين الرياض وجدة، بما في ذلك من يملك خطا في بيته، أن يحجز مكالمته مقدما عن طريق مقسم الرياض الرئيس (سنترال المربع) قبل يوم واحد على الأقل من موعد المكالمة! ومن ثم كان لا بد من تأسيس شريان عريض لنقل الاتصالات بين مدن المملكة من الشرق إلى الغرب.
في عام 1393 هـ شرعت المملكة في بناء ذلك الشريان إذ طرحت وزارة المواصلات منافسة عامة لتوريد وتركيب ''كيبل محوري Co-Axial Cable'' يمتد من الدمام إلى الطائف مرورا بالرياض لنقل المكالمات والمعلومات بسرعة عالية وكفاية تشغيلية موثوقة. أما الوصلة التي تربط بين الطائف وجدة فقد استخدمت فيها أبراج الميكروويف. كانت مواصفات المنافسة وفقا لمعايير عالمية، كما شارك في دراسة وتحليل العطاءات الاتحاد الدولي للاتصالات دون تقديم توصية بالترسية، بل ترك للحكومة قرار اختيار العطاء المناسب في ضوء الجداول والمقارنات التي تضمنتها الدراسة. بمعنى آخر أن إجراءات المنافسة تمت بمهنية وشفافية عالية.
تقلصت دائرة الاختيار إلى شركتين فقط، إحداهما أمريكية والأخرى إيطالية. الأولى كانت قيمة عطائها الأعلى، إلا أن باعها كان الأطول فيما يخص الخبرات في مجال المنافسة، وذلك ما دعا وزارة المواصلات إلى تقديم توصية للحكومة بترسية المشروع عليها. بينما كان لوزارة المالية والاقتصاد الوطني رأي آخر، إذ رأت أن الشركة الأخرى أولى بالترسية لما سيحققه التعاقد معها من وفر مالي في التكلفة، وإن كانت خبرتها أقل من منافستها إلا أن لديها ما يكفي من الخبرة والمؤهلات لإنجاز العمل، وهي أصلا لم تستبعد في مرحلة التحليل الفني للعطاءات.
ذلك الخلاف في الرأي أحالته الحكومة إلى لجنة وزارية للبت فيه مكونة من وزارة المالية والاقتصاد الوطني، وزارة المواصلات، والهيئة المركزية للتخطيط التي لعبت دور الحكم بين الطرفين. عقدت اللجنة اجتماعها الأول والوحيد في مكتب وزير الدولة رئيس الهيئة في الرياض هشام ناظر بحضور الأستاذ محمد أبا الخيل وزير الدولة للشؤون المالية يومئذ، والأستاذ محمد عمر توفيق وزير المواصلات (رحمه الله)، والأستاذ حسين منصوري وكيل وزارة المواصلات يومئذ (رحمه الله). كما كان حاضرا في ذلك الاجتماع كاتب هذه السطور، الذي كلف من قبل رئيس الهيئة بدراسة ملف المنافسة وتقديم توصية للجنة.
كان من بين الحضور في ذلك الاجتماع أيضا، لكن كمستمع، زميل لنا في الهيئة عاد لتوه من الولايات المتحدة بعد حصوله على شهادة دراسية عليا. وكالعادة في تلك الاجتماعات يتناول البعض ممن حضر مبكرا الحديث عن موضوعات خفيفة لا تخلو من الفكاهة لتلطيف الجو العام قبل النظر في جدول الأعمال. وقد بادر زميلنا بالحديث عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية يومئذ، وهو رأي لم يوافقه عليه محمد عمر توفيق (رحمه الله)، إلا أن زميلنا استمر في محاورته والدفاع عن رأيه مستشهدا بارتفاع أسعار ''البامية''، فما كان من الوزير، بعد أن ضاق ذرعا بالنقاش، إلا أن أجابه بنبرة ساخرة: ''يا أخي بلاش تاكل بامية''.
انتهى ذلك الاجتماع بالتوصية بالإجماع على ترسية مشروع الكيبل المحوري على الشركة الإيطالية ذات السعر الأقل، وتم إنجاز العمل وفق المواصفات المحددة والمدة التي اشترطتها المنافسة التي كانت تعد زمنا قياسيا، إذ انتهى التنفيذ في عام 1395هـ.
الشاهد هنا ليس موضوع ''البامية'' إنما الدروس التي يمكن استخلاصها من ذلك الحدث, وهي متعددة. أول تلك الدروس كان سرعة البت من قبل اللجنة الوزارية، وكذلك سرعة التنفيذ، ما يدل على غياب الكثير من العوائق التي تواجه المشروعات اليوم سواء كانت تلك العوائق بيروقراطية، ملكيات خاصة، أو غيرها. ثم هناك الدرس الذي أحسبه الأهم وهو فيما يخص الترسية على أقل الأسعار الذي يعد المعيار الأكثر عدالة للمفاضلة بشرط ولا بد من التوكيد على ذلك الشرط وهو أن يكون لدى صاحب العطاء الأقل سعرا المؤهلات اللازمة والخبرة الكافية في نفس طبيعة وحجم العمل موضوع المنافسة. إذ إن غياب ذلك الشرط يجعل من مبدأ المنافسة غطاء للمغالطة والتضليل.
ويبقى للبامية دور، إذ لعل كلا منا يتذكر تلك الدروس كلما تناولنا طبقا شهيا منها، لا سيما بعدما أثبتت الأبحاث في الآونة الأخيرة فوائد صحية جمة للبامية أحسب أنها لم تدر بخاطر محمد عمر توفيق (رحمه الله) عندما نصح زميلنا مازحا بعدم أكلها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي