وزير العمل .. ومن الصمت ما!
حسناً فعل وزير العمل عندما قرر أن يخالف العرف الذي اعتاده الجمهور من الوزراء الجدد، ومنح نفسه فترة لا تقل عن ثلاثة أشهر قبل الحديث لوسائل الإعلام عن رؤيته لسوق العمل والسبيل التي سيسلكها في إدارتها. تلك الخطوة من الوزير تنبئ عن نية لتكريس وقته في بناء عمل مؤسسي بعيدا عن الفلاشات والبهرجة الإعلامية، والإفادة من الرصيد المتراكم لدى الوزارة من دراسات وبرامج. على أن ''فترة الصمت'' تشكل أيضا فرصة جيدة للوزير لسماع الآراء التي يطرحها البعض من خارج الوزارة في المنابر العامة، اللقاءات الاجتماعية، وغيرها. إذ يبدو أنه اختار ألا يدع فكره أسيراً لمواقف سابقة إن كانت له أو لآخرين، وهو ما يحمد له.
هناك معطيات، أو بديهيات إن شئنا، مرتبطة بسوق العمل يعرفها الكثير من الناس، بينما لا يدركها إلا القليل. من بين تلك المعطيات أن توطين الوظائف في القطاع الخاص يترتب عليه بالضرورة تكلفة إضافية على المجتمع أن يتحملها، إذ إن أي برنامج لإحلال السعوديين في سوق العمل يرجى له النجاح، لا بد أن تتوافر له عوامل ثلاثة، هي : الاستقرار والأمان الوظيفي، الأجور والرواتب المجزية، والتدريب الجيد. ذلك أن غياب أي من هذه العوامل يحدث اضطراباً وخلخلة في البرنامج إلى أن ينتهي به الحال تدريجياً إلى مجرد مضيعة للوقت وإهدار للمال وضياع لمستقبل وآمال الكثير من الشباب، فما بالك إن غابت كل تلك العوامل مجتمعة! وأحسب أن لسنا في حاجة إلى سرد أمثلة لبرامج فاشلة، فهي كثيرة، لكن يحسن الاستشهاد ببعض النماذج التي حققت نسبا عالية في مجال السعودة مع الحفاظ على مستوى جيد من الإنتاجية والخدمة كقطاع الصناعة الحافل بالعديد من الرواد كشركة أرامكو السعودية، ''سابك''، ''صافولا''، ''الكابلات السعودية''، قطاع المصارف، برامج عبد اللطيف جميل، وغيرها.
لكن مع الأسف إن الطاقة الاستيعابية لمعظم تلك القطاعات تكاد تكون قد بلغت درجة التشبع، ولم تعد هناك فرص وظيفية جديدة يمكن التعويل عليها للمساهمة في معالجة مشكلة البطالة. ذلك يدعو تلقائيا للبحث عن بدائل أخرى قد تتوافر لها عوامل النجاح الثلاثة التي سبقت الإشارة إليها. في مقدمة تلك البدائل تأتي العقود التي تبرمها الحكومة مع شركات ومؤسسات القطاع الخاص لتشغيل وصيانة مشاريع البنية التحتية والمرافق العامة، وهي عقود لا يمكن الاستهانة بها، إذ يقدر ما يصرف عليها بنحو 30 مليار ريال سنويا، كما أنها تحمل فرصا لتوظيف آلاف من المواطنين. غير أن المراقب لما هو قائم فعلاً على أرض الواقع يجد أن الإفادة من تلك العقود في توفير وظائف للسعوديين ضئيلة على الرغم من الجهود الكبيرة التي تُبذل، والقرارات العديدة التي صدرت على مدى العشرين عاماً الماضية بأن تكون أولوية التوظيف للسعوديين وتحديد نسب إلزامية متدرجة للسعودة، وما صاحب ذلك من حوافز وعقوبات مكملة ومساندة.
لقد اصطدمت برامج السعودة في عقود التشغيل والصيانة بعائق نظامي وهو الفترة المحددة في تعاميم صدرت قبل نحو ربع قرن وضعت سقفاً لتلك العقود بألا تزيد مدتها على ثلاث سنوات. وهي فترة أثبتت التجربة تلو الأخرى أنها غير كافية لتوفير وظيفة مستقرة للمواطن الذي يتطلع إلى تنظيم حياته وبناء أسرته، ناهيك عن تأهيل كوادر مدربة تبني سجلها المهني من خلال التدرج في سلم عمل منتج يضيف إلى الاقتصاد الوطني خبرات تراكمية تزداد عاماً بعد آخر.
وتنبهت الحكومة ومجلس الشورى لذلك الواقع والمتغيرات الكبيرة في سوق العمل إلى جانب التطور في نطاق الأعمال المشمولة في عقود التشغيل والصيانة التي لم تعد تقتصر على أعمال النظافة وما شابه، بل باتت تتعامل مع محطات لتوليد الكهرباء، محطات تبريد مركزية، أنظمة مراقبة، شبكات اتصالات، مختبرات وأجهزة دقيقة، وغيرها من مجالات تتطلب مؤهلات، ويتقاضى أصحابها رواتب مجزية تتلاءم مع تطلعات المواطن السعودي. لذا تمت معالجة فترة عقود التشغيل في النظام الجديد للمنافسات والمشتريات الحكومية الصادر في 20/2/1428هـ بجعلها خمس سنوات مع جواز زيادتها للعقود التي تتطلب ذلك بعد موافقة وزارة المالية.
بالطبع لا بد أن تكون هناك ضوابط تكفل للمجتمع حقوقه وتحمي المال العام، إذ يجب النص في العقود على برامج تدريبية جادة ووظائف محددة للسعوديين وفق جدول زمني واضح. كما يجب عدم الإخلال بمبدأ المنافسة العامة وتكافؤ الفرص ومنع الاحتكار. أما ما يبديه البعض من صعوبة الارتباط في الميزانية على مبالغ متكررة لسنوات طويلة، فهي تخوف لا مبرر له، حيث عالج النظام تلك الجزئية بالنص في العقود المعمول بها حالياً على حق الدولة في إنهاء التعاقد في أي وقت تقتضيه المصلحة العامة.
إن زيادة مدة عقود التشغيل والصيانة في النظام الجديد للمنافسات والمشتريات الحكومية تشكل فرصة جيدة أمام وزارة العمل لبدء حوار مع وزارة المالية لإعادة صياغة أهداف تلك العقود وترتيبها في إطار يتلافى السلبيات التي أفرزتها في الماضي، واستثمارها ضمن الآليات الأساس في برنامج السعودة لتقديم نموذج للآخرين.