فساد في القضاء.. لا بد من البتر
لا أعتقدها مفاجأة أن يكون هناك فساد في أي جهاز حكومي، بما في ذلك الجهاز القضائي, فاللاعبون بشر يخطئون ويصيبون، يحسنون ويسيئون. المفاجأة تكمن في كيفية المعالجة, فتارة نشن الحملات تلو الحملات على جهاز بعينه لأي هفوة أو جنوح, وتارة نقف متفرجين على وقائع عظيمة دون أن يرف لنا جفن، وتارة نهب جميعا متقدين, وتارة يهب جمع غفير مدافعين متأولين منافحين عن الخطأ. في تقديري ــ لا يوجد أخطر من انحراف المرفق العام إذا كان معنيا هو أصلا بتعديل الانحرافات. فلا أقبح من أن يقطع الإشارة رجل المرور, ولا أن يزوّر في الحسابات المحاسب القانوني, ولا أن يرتشي القاضي. في الأسبوع الماضي أمطرتنا صحيفة ''عكاظ'' (عدد 3382) بتقرير عن فساد مخيف في معقل قضائي هو المحكمة العامة في المدينة المنورة, وهي الجهة المفترض فيها والمأمول منها محاربة الفساد لا أن تكون من أساطينه، وهو ما يدعو إلى معالجة عاجلة لا تقبل التسويف والانتظار, فهي تمسّ أخطر معقل يكفل الطمأنينة الاجتماعية، وهو الجهاز القضائي.
يقول الخبر إنه تم القبض على مجموعة من الفسدة لكل واحد منهم دور يلعبه، أخطرهم ''من قسم صحائف الدعوى كان يتحكم في تحويل معاملات المواطنين لقاض معين مقابل مبالغ مالية تبدأ من 30 ألفا إلى 300 ألف ريال حسب القضية وأهميتها''. يستمر الخبر ليخبرنا عن صاعقة أخرى تخص موظفا آخر, موظف يجيد اللعب البهلواني بالوثائق والمستندات القانونية، حيث ''يتلاعب بمعاملات حجج الاستحكام، بحيث يستطيع العمل على إصدار صكوك لأراض كبيرة المساحة داخل حدود الحرم النبوي وخارجه بمبالغ مالية كبيرة تبدأ من 500 ألف إلى ملايين الريالات، في حين أن سكرتير القاضي المقبوض عليه أيضا متهم بتسهيل وصول المعاملات المخالفة الخاصة بالصكوك للقاضي وتمريرها مباشرة''. أن يكون القضاء مخترقا بهذا الشكل الفضائحي طامة تستحق إجازة حكومية لكل المرافق العامة إلى حين معالجة المرض.
لا تبدو في الأفق حلول سحرية ولا حتى طبيعية ما دام التشنج هو ردة الفعل الطاغية لكل ما يلامس قائمة معروفة من المرافق العامة المحرم تناول تفاصيل عملها بشكل انتقادي. أخبروني عن كم قضية تم تسليط الضوء عليها منذ بدايتها إلى نهايتها تمس قاضيا مرتشيا أو كاتب عدل مزورا أو...؟ أتحدى أي شخص أن يأتي لنا بحادثة يتيمة تابعها المجتمع منذ بزوغها إلى غروبها. الشاهد من هذا هو إيضاح حجم التكتيم المصاحب لبعض قضايا الانحراف التي ليس من الصحي أن تبقى في أدراج الظلام، فالمجتمع كالكائن الحي يرتبك وتتبعثر خلاياه إذا شعر بخلل في خلية من الخلايا المهمة, وهل ما هو أهم من الخلية المسؤولة عن إقامة شعيرة العدل؟ وهل تعتقدون أن الاختفاء والتخفي وراء هيبة وشاح المرفق العام كفيل بأن ينسى الناس أو يغفروا هفوات المرفق؟
لست هنا بمعرض التعريض بالمرفق القضائي, بل هي حرقة عليه وخوف على هيبته وألم من تداعيات تخديره, ونتائج ذلك علينا وعليه وعلى مستقبلنا جميعا. هي وظيفة حساسة جدا, تلوكها الألسن وتتجاذبها مشاعر متناقضة ومتنافرة في بعض الأحيان، لها متطلبات لم نوف بها, ولها احتياجات لم نحققها. مع هذا، لا مناص من وجود هذه الوظيفة وجودا يكفل تحقيق الهدف منها ويحميها من نفسها قبل غيرها. ولا حيلة في التغلب على صعابها ونقاط ضعفها إلا بمواجهة لا تقبل الحلول الوسط. وأحيانا لا بد من برنامج علاجي صارم, وأحيانا أخرى، لا بد من البتر.