بنت الوطن نورة تنادي
إبان دراستي وعملي في الولايات المتحدة ، ولحنينا وشوقنا لكل شيء وأي شيء من الوطن، كنا نحرص على قراءة الصحف اليومية ما أمكن، حتى لو كانت أخبارها ومعلوماتها قد تقادمت أياما أو حتى أسابيع، فنقرأ بشغف صحفنا من الجلدة إلى الجلدة، علها تروي بعض الظمأ، ولو من خلال معرفة أخبار الوطن، وكنا نفرح ونبتهج عندما نطالع أخبارا سارة، ونحزن وندعو عندما يكون هناك أخبار غير سارة. ومن بعض الأحداث التي ما زالت عالقة في ذهني وأكاد أحلم بها كل يوم، وحتى يومنا هذا، ما شعرت به عندما قرأت ما كتبته ابنة الوطن العزيزة ''نورة'' عن معاناة أمها عندما أخذتها إلى أحد المستشفيات في إحدى مدن المملكة البعيدة عن المدن الرئيسة، كحالة طارئة لإجراء غسيل للكلى، حيث كانت تعاني فشلا كلويا، وكانت تقوم بإجراء غسيل لكلاها حسب جدول محدد، ولكن طبيب وممرضات الإسعاف اعتذروا بسبب شغر جميع الأجهزة المتاحة، وهما جهازان فقط، من قبل مرضى آخرين، ولم يكلفوا أنفسهم، حتى، عناء فحص المريضة وتحديد مدى خطورة الوضع، على الرغم من إلحاح ورجاء وصراخ ابنة المريضة نورة. ومع ساعات الانتظار الطويلة في ممر الإسعاف، توفيت أم نورة للتدهور السريع لحالتها وعدم التدخل الطبي لإنقاذها في الوقت المناسب، وبالنسبة لنورة، فأمها قتلت. وبعد أيام من معاناة نورة، ذات الـ 18 ربيعا، وإخوتها الصغار، يتيمي الأم والأب، قررت أن تكتب عن معاناتها وما حصل لأمها، من خلال الوسائل الإعلامية، لتوصيلها إلى ولاة الأمر والمسؤولين، لا لتعويضها عن أمها، بل لمساعدة وإنقاذ الآخرين من أبناء وبنات الوطن المصابين بفشل كلوي، ولو كانت تعلم نورة في حينه عما تعمله جمعية ''كلانا'' لطالبت بإنشائها في حينه، ومن يعلم فقد كان يمكن أن تنقذ أمها.
جمعية ''كلانا''، والتي تحمل اسم الأمير فهد بن سلمان ــ رحمه الله، هي إحدى الجمعيات الصحية الخيرية السعودية التي تعنى بمساعدة مرضى الفشل الكلوي في الحصول على خدمات صحية، وهي نموذج وطني يمثل قفزة نوعية في طريقة تجميع وتخصيص وتوزيع الأعمال الخيرية، سواءً من الدولة أو من الشركات المحلية أو الدولية، أو من الأفراد سواءً كانوا رجال (سيدات) أعمال أو عاديين. وعلى الرغم من قصر عمر هذه الجمعية، حيث تم إنشاؤها عام 1428هـ، إلا أنها قد قامت بمنجزات ومكتسبات سريعة ولكنها كبيرة، تعكس العمل الاحترافي والأهداف النبيلة التي أنشئ من أجلها، وبقيادة حكيمة ومتابعة دؤوبة من الأمير الشاب عبد العزيز بن سلمان ــ حفظه الله ــ والذي يخصص جزءا من وقته الثمين لإدارة ومتابعة أعمال وأحوال الجمعية والتأكد من تقديم أفضل الخدمات للمرضى، تمثلت في تقديم خدمات الغسيل الكلوي والخدمات الصحية المساندة لأكثر من 700 حالة، وهناك حالات أكثر وبالآلاف ما زالت في الانتظار.
ما زلنا في المملكة، نتبع الأسلوب التقليدي في إدارة وتوجيه الأعمال الخيرية، فما زال الجميع يتجه إلى دفع الأموال الخيرية، زكاة أو صدقة أو هبة، إلى جهات أو حتى أشخاص لصرفها على الفقراء، أو إرسالها للخارج كمساعدات، أو بناء مساجد، وغيرها من الأعمال التقليدية الحميدة. وهذا كله محمود، ولكن ليس أن يوجه جل هذه الأموال، تقدر بالمليارات سنوياً، إلى هذه النشاطات فقط، بل ينبغي إعادة النظر جديا في توجيه جزء من هذه الأموال الخيرية ووقفها والصرف منها على المرضى والأبحاث الطبية والتعليم، والإسلام يحث ويشجع على هذا في مواضع كثيرة ''ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا''.
هناك مصادر كثيرة وغنية لدعم ''كلانا''، وهو دعم لمرضى الفشل الكلوي في المملكة ــ شفاهم الله ــ فلو طبقنا، كلنا كرجال أعمال سعوديين أو غير سعوديين، مبدأ ''من الوطن وإلى الوطن''، في توجيه جميع ما نخصصه من أموال خيرية لجمعيات خيرية مثل ''كلانا''، لاستطعنا تغطية جميع الاحتياجات الصحية لمعالجة مرضى الفشل الكلوي في المملكة، بل وأكثر حيث نستطيع الاستفادة من الفائض من هذه الأموال في التدريب والتوعية وإعداد البحوث وبرامج العلاج الوقائي وغيرها من الأعمال التي يحتاج إليها المواطن. أيهما أولى بالحصول على خيرات وطننا، الغريب أم المواطن؟ هل من المقبول أن يقوم بعض رجال الأعمال أو الشركات السعودية، حكومية كانت أو خاصة، ببناء جامعات ومستشفيات خارج المملكة أو الصرف على مرضى من خارج المملكة أو تدريس وابتعاث طلبة من خارج الوطن أو بناء مستشفيات ومراكز أبحاث طبية خارج المملكة بدلاً من توجيهها إلى الوطن؟ أليس من باب الوفاء ورد الجميل، ناهيك عن حقوق وامتيازات وواجبات المواطنة، أن يقوم هؤلاء وغيرهم بتوجيه بعض أموالهم للوطن وأبنائه، وهذا واجب يمليه الوطن على أبنائه وبناته المخلصين.
نسمع كثيرا عن المسؤولية الاجتماعية للشركات والبنوك، ولكننا ما زلنا لا نرى نتائج ملموسة على أرض الوطن وخصوصا في دعم مشاريع وخدمات الصحة والتعليم، على الرغم من وجود بعض المبادرات الأولية المشجعة من بعض البنوك. من طرق الدعم التي يمكن عملها بين الشركات والبنوك مع الجمعيات الخيرية الصحية كـ ''كلانا''، تخصيص أوقاف يتم استثمارها وصرف ريعها على تقديم الخدمات الصحية لمرضى الفشل الكلوي، أو دعم عدد محدد من مرضى الفشل الكلوي، أو دعم بحث علمي وميداني لمرضى الفشل الكلوي، أو دعم إنشاء مراكز لغسيل الكلى في المناطق النائية، أو دعم تطوير برامج توعية وبرامج وقائية لمرضى السكري والضغط المؤدية للفشل الكلوي. بعض العائلات التجارية في المملكة تملك حساً وطنياً رفيعاً وتريد أن تخدم الوطن بأفضل طريقة وترغب بتنويع طرق وجهات الصرف، وكانت نصيحتي في لقاءاتي معهم حول هذا الموضوع، بالتركيز على التعليم والصحة، فهي ما يحتاج إليه الوطن أكثر من أي شيء آخر، وخدمات غسيل الكلى التي تقدمها جمعية ''كلانا'' هي إحدى هذه الجهات التي تعمل في هذا الاتجاه.
قد تكون نورة خسرت أمها، ولكننا لا نريد أن نخسر نورة، ومن أجلها والآلاف من مرضى الفشل الكلوي في المملكة، لندعم بأمولنا ووقتنا ودعائنا جمعية ''كلانا''.
وللحديث بقية...