أرض الديار
تطالعنا مسلسلات الدراما السورية، ذات الصبغة التراثية، بمشاهد لأفراد الأسرة جميعهم وهم يزاولون عديدا من أنشطتهم المعيشية اليومية في أفنية المساكن الشامية التقليدية، مستمتعين بجمالها وبما توفره لهم من راحة نفسية. وأسمع بين الحين والآخر من يردد حديث الإعجاب المصبوغ بالعبارات الشاعرية عن روعة هذه الأفنية وجمال نافورتها أو "بحرتها" كما يسميها إخواننا الشوام، وعن النباتات المتسلقة على جدرانها وفوق عرائشها، أو عن أشجار الفواكه المزروعة فيها وأحواض الزهور الموزعة على أطرافها، أو عن زخارف أرضها ونقوش جدرانها. وقد يخفى على بعض القراء الكرام - خصوصاً صغار السن - أن المساكن التي تتوسطها الأفنية هي النموذج السائد للمساكن في غالبية المناطق الحارَّة، وأن المسكن ذا الفناء كان النموذج السائد في كل مدينة أو قرية من قرى منطقة نجد، قبل استيراد نموذج الفيلات والشقق السكنية، غير أنها كانت تُبنى من الطين، ولشحِّ المياه لم تكن فيها برك ماء، ونادراً ما كانت تزرع فيها نخلة أو اثنتان. وقد سبق أن أخذت القراء الكرام في أحد مقالاتي السابقة في رحلة مع الذاكرة زرنا فيها مسكنا من مساكن الرياض القديمة.
ولتسمحوا لي أن أنقل لكم فيما يلي مقتطفات مما كتب الشيخ الأديب علي الطنطاوي (يرحمه الله) في وصف البيوت الشامية، حيث قال عنها: "كانت تبدو من وراء الأبواب، من الحارات الضيقة المظلمة؛ كأنها مخازن التبن، فإذا دخلها الداخل، فقد دخل جنة تجري من تحتها الأنهار: الصحن المشرق الذي يضحك فيه الزهر، ويسبّح الطير ويبسم الرخام، وتزهى النقوش والآيات على الجدران، يقوم في صدره الإيوان العظيم، وتطل عليه الغرف المشمسة الدافئة فهو مشتى ومصيف، وهو نزهة وسكن، والبركة يتدفق منها الماء، ويثب على حافاتها"، كما كتب أيضاً: "كانت الدار مستورة لا يرى من فيها أحداً، ولا يراهم منها أحد، لا نافذة لها على الطريق، ولا شرفة للجيران عليها. عالم مستقل لا ترى منها ولا تُرى ولا يعدو عليك أحد". وقارنها بالبيوت الحديثة التي وصفها: "بالسجون المغلقة المطبقة التي قلدنا فيها غيرنا! سجون ليس فيها صحن ولا شجرة ولا بركة، ولا يزقزق فيها عصفور، ولا تسجع فيها يمامة، ولا ترى منها وجه السماء؛ إلا أن خرجت إلى الشرفة فصرت على مرأى الناس جميعاً".
فعلاً لقد حرمتنا تنظيمات بناء المساكن واشتراطاته التي أفرزت نموذج الفيلات والشقق السكنية؛ من متعة الأفنية الداخلية وجمالها، وحرمت أفراد الأسرة من مزاولة العديد من الوظائف المعيشية اليومية في الفراغات الخارجية في بيئة أسرية خاصة وحميمة. وفقد أفراد الأسرة نتيجة لاختفاء الفناء الداخلي فرصة الاستمتاع بمشاهدة السماء، والتمتع بأشعة الشمس الدافئة في الشتاء، ونسمات الهواء الباردة في أمسيات الصيف، في خصوصية كاملة بعيداً عن نوافذ الجيران وأعينهم. كما خسرت مساكننا المميزات المناخية للأفنية في المناطق الحارة؛ لأنها تعمل بوصفها منظماً حرارياً يسمح بدخول الهواء البارد في ساعات الليل الباردة، ويبقيه لأطول وقت خلال ساعات النهار الحارة، خصوصاً إذا ما تمت زراعتها بالأشجار والنباتات، وأوجد فيها عناصر مائية.