الأربطة صدقة جارية ومساكن للمحتاجين

أهنّئ القراء الكرام بشهر رمضان المبارك (شهر الإنفاق والتسابق إليه). ومجتمعنا - ولله الحمد - مجتمع متكاتف ومتعاون يتسابق إلى عمل الخير والإنفاق لتقديم المساعدات، التي أتمنى أن يوجه جزء منها لتوفير المسكن الصحي والملائم لكل من لا يجد المأوى. لذا يسرني أن أخصص مقال اليوم للحديث عن الأوقاف السكنية. فالفقهاء يعرّفون الوقف: بأنه "تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة"، وتُعدُّ الأوقاف سبقاً للحضارة الإسلامية في مجال الرعاية الاجتماعية، بل هي من المخترعات الإسلامية التي لم تسبقها إليها أمة من الأمم. وتُعدُّ الأوقاف من ثروات الأمة العظيمة ومكتسابتها؛ لما لها من أثر فاعل في تغطية كثير من احتياجات المجتمع ومنفعة أفراده في نواحي الحياة جميعها، إضافة إلى أنها قربة إلى الله وصدقة جارية أجرُها دائم لا ينقطع، فقد صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، إحداها الصدقة الجارية. وفي هذا دليل على صحة أصل الوقف وعظيم ثوابه الذي يجري للمسلم في حياته وبعد مماته. وقد وقف عدد من الصحابة رضي الله عنهم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعلمه وإقراره، واستمروا في الوقف بعد وفاته، حتى إنه يقال: "ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له قدرة على الوقف إلا وقف". وقد اعتنى الخلفاء الراشدون بالوقف، وعملوا على تنميته ورعايته وتنويع مصارفه، وتوسَّع الوقف وانتشر بتوسُّع الدولة الإسلامية.
وبالإضافة إلى الأجر العظيم والقربة إلى الله؛ فإن الأوقاف تُعدُّ من وسائل التكافل الاجتماعي ذات الفوائد العظيمة على المجتمع الإسلامي إذا أُحسن تشغيلها وإدارتها؛ فلا حدود لوظائف الأوقاف (فقد تشمل: المساجد، والمدارس، والمستشفيات، ودور الرعاية، والمساكن، وغيرها كثير مما ينفع المسلمين عامة والفقراء والمحتاجين منهم على وجه الخصوص). وللأوقاف في العالم الإسلامي عدة أسماء (مثل: الأربطة، والأسبلة، والحبوس، والخانقات، والزوايا، والتكايا). والرباط أو الأربطة من الأسماء التي شاعت في عدد من مدن المنطقة الغربية (مثل: مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وجدة)، وهي تطلق على المباني الخيرية التي حُبست أو أُوقفت للغرض السكني لمن قعد بهم الوقت ولا عائل لهم (مثل: الأرامل، والمطلقات، والمسنين، وأصحاب العاهات، وغيرهم من الفقراء)، وقد وصل عدد الأربطة في مدينة جدة إلى 60 رباطاً.
وأخذ الرباط اسمه من المنشآت العسكرية التي يرابط فيها المجاهدون في سبيل الله، خصوصاً على حدود الدولة الإسلامية، ثم أصبحت الأربطة تُقام في المدن الإسلامية، وهو ما أدى إلى تغيّر وظيفتها الحربية، ليصبح لها وظائف أخرى، منها: توفير السكن الدائم لمن يستحقون الرعاية من الفقراء. والأربطة السكنية نوع من التكافل الاجتماعي وُجد في غالبية المدن الإسلامية (مثل: مكة، ودمشق، وبغداد، والقاهرة، وفاس، وغيرها)، ويوفر فيها عادة الحياة الكريمة (من: إقامة، ومأكل، ومشرب، وملبس)؛ صيانة للمستفيدين والمستفيدات منها. وبهذا تُعدُّ الأربطة السكنية حلاً إسلامياً مبتكراً وسابقاً لمشكلة المشردين homeless، أو من لا مأوى لهم. والأربطة السكنية مساكن مشابهة للفنادق ينزل فيها المحتاجون بالمجان، فقد أوجد فيها - منذ القدم - الحمامات، والمطابخ، ومخازن الأطعمة والأشربة والأدوية، وقد يُخصص لها طبيب، ويُصرف عليها عادة من ريع الأوقاف الأخرى المحبوسة من أهل البر والخير. وبهذه المناسبة أوجه الدعوة إلى كل أهل اليسار من التجار ورجال الأعمال السعوديين إلى تجديد العناية بإنشاء مثل هذه الأوقاف السكنية وتطويرها؛ لما لها من آثار اجتماعية واقتصادية إيجابية على الفقراء والمحتاجين من المواطنين. وكل عام وأنتم بألف خير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي