عندما يصنع الاستشراق رؤية نمطية عن الشرق ومجتمعاته
البدايات الأولى
بدأ المؤرخون الغربيون والجغرافيون وعلماء الأعراق البشرية، إضافة إلى المبشرين المسيحيين، والرحالة العاديين، بالقيام برحلات وزيارات كثيرة إلى مختلف البلدان الآسيوية منذ القرن الـ 19 ميلادي، خصوصاً إلى منطقة الشرق الأوسط، وراحوا ينقلون انطباعاتهم عن الأرض والشعب إلى القراء والتجمعات والطوائف على امتداد العالم الغربي. وشكلت أعمالهم ما سماه الراحل إدوارد سعيد «المؤسسة المتحدة للتعامل مع الشرق»، عبر وضع حقائق عن الشرق، أو الإدلاء بآراء عنه، أو وصفه وتوجيهه والتحكم فيه. وعليه، فرض استشراق القرن الـ 19 نوعاً من السلطة الفكرية على الشرق، وأصبح أداة من أجل فرض السيطرة الاستعمارية، وعمل دوماً من خلال فرضية التفوق الغربي على الشرق وعلى شعوبه أصحاب البشرة السمراء.
ونعثر في كتابات الرحالة على صور نمطية للعرب والمسلمين، أسهمت في تكوين ما يشبه «المرجعية» للذهنية الأوروبية حول الأرض والشعوب التي زاروها، فمثلاً صوّر مارك توين فلسطين، في كتاب رحلاته التي سماها «الأبرياء في الخارج» ونشرت في عام 1869 ميلادي، كبلاد «حزينة وكاسرة للقلوب»، «فيها مناظر ومشاهد مملة وكئيبة»، و»تتخذ لنفسها مكاناً من الخيش والرماد». أما «سكانها العرب فهم أساساً أناس متسولون بطبيعتهم وغريزيون». وقد استغل «الصهاينة» هذه الصور الانتقاصية للأرض والشعب أبشع استغلال، كي يروّجوا للهجرات اليهودية الجماعية، وكي ينشروا الدعاية المغرضة بين الأوروبيين والأمريكيين.
غير أن كتاب مارك توين، كما تلاحظ المؤلفة، واحد من مئات كتب الرحلات عن الشرق الأوسط التي نشرت في أوروبا والولايات المتحدة على امتداد القرن الـ 19، والتي نقلت صورة ازدرائية ومتعالية، تنتقص من حق الفلسطينيين والعرب.
وتعامل الرحالة والمبشرون و»المكتشفون» الأوائل الأوروبيون مع بلدان الشرق وشعوبها وفق منطق ثقافي تمركزي، يجعل من أوروبا مركز الكون ومحوره وموجهه، وقدموا روايات وأقوالاً تقوم على معيار أفضلية الإنسان «المتمدن» على «غير المتمدن»، وساد مصطلح الإنسان «المتوحش»، ثم «البدائي» في أبحاث ودراسات التاريخ والإنثروبولوجيا والإثنولوجيا. وقد أخذت أقوال الرحالة والمبشرين الانتقائية ورواياتهم باعتبارها صورة تعبّر عن واقع الشعوب «البدائية» أو «المتوحشة»، ثم ألصقت صفات وخصائص كثيرة بهذه الشعوب، ولعبت الإنثروبولوجيا دوراً مهما في إشاعة هذه المصطلحات وانتشارها، إذ قدم عديد من الباحثين الإنثروبولوجيين تفسيرات ودراسات حول الفكر «البدائي» واختلافه عن الفكر «المتمدن». تدخل في هذا الإطار أبحاث ودراسات رائدي علم الإنثروبولوجيا «مورجن» و»تايلر»، حيث يعتبر الأخير أن الأدلة المتوافرة تؤكد الرأي القائل إن الإنسان المتمدن بشكل عام ليس أحكم وأقدر من المتوحش فحسب، بل أفضل وأسعد، وأن البربري يقف بينهما، وعليه، يصنف تايلر البشر إلى ثلاث حالات هي: التوحش والبربرية والمدنية، ويؤكد أفضلية المتمدن على المتوحش والبربري، ويذهب مورجن متمادياً في إلصاقه الصفات الدنيا بالإنسان المتوحش من خلال الزعم بأنه يستدل على تدني الإنسان المتوحش في الموازين العقلية والأخلاقية، وعلى افتقاره إلى التطور والخبرة، وعلى خضوعه لشهواته الحيوانية وعواطف الدنيئة، من بقايا الفن القديم التي تظهر في الآلات الصوانية والصخرية والعظمية، ومن حياته في الكهوف في بعض المناطق، ومن بقاياه العظمية. كما يستدل على ذلك من الوضع الراهن للقبائل المتوحشة التي لا تزال في حالة متدنية من التطور. ومع تطور علم الإنثروبولوجيا فُندت الآراء والدراسات التي ألصقت الصفات البشعة والمتدنية بالشعوب التي خضعت لمعايير الغرب «المتمدن»، فليس هناك حدود فاصلة بين البشر في هذا المجال، رغم الاختلافات الواسعة، وإن وجدت فهي من صنع أوهام ميتافيزيقا التمركز والفصل والإلغاء.
فاعلية الاستشراق
يعد الاستشراق المصدر الرئيس لبدايات تناول الدراسات الإنثروبولوجية في بلدان الشرق الأوسط، وكان المستشرقون الأوائل ينتمون إلى جيل من العلماء اللاهوتيين، وبالأخص علماء العهدين القديم والجديد، أو كانوا من المبشرين المسيحيين، ومنهم من كان عالماً مهتماً أو متخصصاً في الدراسات السامية، وبعضهم كان من الهواة الذين سحرهم حكايات وقصص الشرق وأساطيره. وارتبطت بدايات الاستشراق بحاجة الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية إلى معرفة تفاصيل أرض وموطن السيد المسيح، لكن الاستشراق استغل من طرف القائمين على الكنائس الأوروبية، كي تجري عمليات مطابقة لصورة فلسطين والشرق مع تلك الوارد في العهدين القديم والجديد، كما جيرته القوى الرأسمالية الصاعدة في فرنسا وبريطانيا لمصلحة مطامعها الاستعماري.
وتحول الاستشراق, خصوصاً في القرن الـ 19 - إلى فعالية استعمارية، وأحد منتجات التمركز الغربي على الذات. وشكل الشرق في إطاره موضوعاً لتفكير نتجت عنه دراسات وأبحاث وأقوال مختلفة، بدا فيها الشرقي نمطاً ملتبساً ومفعماً بالأساطير والتصورات المغلوطة، وظهر فيه الشرق مغايراً ومفارقاً لواقع الشرق ذاته، مع أن الشرق ليس كياناً واحداً، لكن الأبحاث والدراسات الاستشراقية صورته بناء على مسبقات وأحكام التمركز الغربي. فالفصل الميتافيزيقي بين «الغرب» و»الشرق» لم يأخذ باصطلاحه المكاني والجغرافي، بل في تأكيد التباين الثقافي والسياسي والأيديولوجي بينهما في انفصامهما، لذلك فإن الاستشراق ليس ظاهرة خلقتها ظروف تاريخية محددة . كما أنه لم يشكل، عبر تاريخه، إفرازاً لحاجات ومصالح الغرب الحيوية المتصاعدة، بقدر ما كان إفرازاً، قد لا نغالي إذا قلنا «طبيعياً»، لعقل ميتافيزيقي متمركز على ذاته، همّه الأساس إنتاج الآخر (أي آخر) وفق صور رغبوية ومتخيلة، تعتريها تشوهات الإحالة والفصل والمعايير الميتافيزيقية التي وسمت مجمل تاريخ الفلسفة الميتافيزيقية الغربية. وهكذا، تُظهر ميتافيزيقا الاستشراق الذات الغربية في زهوة تفوقها وقوتها وسطوتها، بينما تزيف ثقافة الآخر الشرقي (خصوصاً الإسلامي) وتحتقر ثقافته ولغته وديانته ووجوده، وتضعه خارج التاريخ، وخارج الفضاء الكوني المشترك الذي يناضل من أجله الجميع، مجردة إياه من القيم الإنسانية المشتركة، قد لا ينطبق هذا التوصيف على توجهات وجهود بعض كبار المستشرقين، إنما على مجمل حركية وفاعلية الاستشراق، خصوصاً خلال مراحل اقترانها بالمدّ الاستعماري.
وإن كان الاستشراق ــ في إحدى مراحله ــ مجالاً لتطبيق ونشر العلم الحديث في الشرق، إلا أنه جعل من الشرق ميداناً إنثروبولوجيا وإثنولوجياً مجرداً من قيمه وتاريخه، وظهر، وفق توصيفاته، الشرقي: العربي والتركي والفارسي، صورة للشهواني القاسي، أو صورة البربري الفظ، خاصة الشمال إفريقي. يجمع بين هذه الصور دين بسيط وبدائي ومتعصب وعدواني هو الإسلام، وكانت مسيحية القرون الوسطى قد بنت هذه الصور، ونسجتها مخيلة تمركزها اللاهوتي الذي دفع إلى حدوث أكبر مواجهة دينية بين الإسلام والمسيحية خلال الحروب الصليبية.
دور الإنثروبولوجيا
على الرغم من أن الإنثروبولوجيا نمت وتطورت مع تطور العلوم الحديثة، غير أنها شهدت تحولات كثيرة وواسعة، تغيرت معها النظرة إلى الآخر، الشرقي وغيره، وشهد معها الاستشراق تغيراً واضحاً، من عالم مثبت يقوم على ماهوية ثقافية حسب تعبير مكسيم رودسون ويشده الماضي وصراعاته ونظرته الإقصائية، إلى عالم ينتقد المركز ويسعى نحو عالمية تفترض وجود طبيعة إنسانية مشتركة، تنادي بتساوي الطاقات الكامنة للثقافات من أجل تحقيق ما هو إنساني. ومع ذلك لم تفلت الإنثروبولوجيا من عقلية النموذج الأوروبي الأصلح والأفضل، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالدراسات الإسلامية. فقد خضع الإسلام إلى تاريخ شرقنة أوروبية بدءاً من القرن الـ 16 وحتى القرن الـ 20، حيث وضع في قفص الاتهام، وتعرض لمختلف أنواع الرفض خصوصاً شخصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم، وشكك في أسس المجتمع الذي انبنى على دعواه، وعممت الدراسات الإنثروبولوجية والإثنولوجية على المجتمعات الإسلامية، مثل تلك التي قام بها وسترومارك وج. تيلون وغيرهما على قطاعات وبنى بسيطة شملت بعض القبائل في الجزيرة العربية واليمن، وبعض قبائل البربر «الأمازيغيين» في الجزائر والمغرب، ومجموعات قبائل الطوارق في الصحراء المغاربية الكبرى وسواها. إن ثقافة هذه المجموعات وتقاليدها لا تنطبق على القطاعات الغالبة في المجتمعات الإسلامية، كما أن مثل هذه الدراسات تنم عن ممارسة إثنولوجية غير علمية وغير دقيقة ويحكمها منطق استعماري في أغلب الأحيان.
ربما من الضروري، في هذا المجال، ذكر نموذج مغاير لهؤلاء الإنثروبولوجيين، ويحضر هنا مؤسس الإنثروبولوجيا البنيوية كلود ليفي ستروس، حيث بينت دراسات هذا الفيلسوف والإنثروبولوجي تهافت صور التمركز العرقي الغربي، وقام بدراسات تخص المجال الإسلامي، حيث بدأ بدراسة الفن الإسلامي والفن «الشرقي»في الهند والبلدان المجاورة لها، من خلال علاقة الأجزاء بالكل، كما أنه درس هندسة المقابر والأضرحة، وقدم تأملات للفن المغولي الإسلامي مبنية على تحليل إنثروبولوجي تنتهي بفلسفة التاريخ، واستعان بالتحليل النفسي الإنثروبولوجي، وقدم أبحاثاً ذات قيمة علمية عالية في كتابه «المدارات الحزينة»، إلا أن استنتاجاته وشروحها اعتراهما سوء فهم ولغط كبيران، خاصة عندما نقلها إلى فلسفة التاريخ، من بين هذه الاستنتاجات: التعارض بين الإسلام الجامد والخالد مع المسيحية والبوذية، واللاتسامح البنيوي للإسلام، إضافة إلى التناقض بين الأحجام الواسعة لخارج القبر وضيق مساحة القبر الذي يضم الميت. كل ذلك يبيّن مدى بعده عن الثقافة الإسلامية وفلسفتها وميراثها، ويعكس إرث وثقل إفرازات التمركز الذاتي للغرب التي طالت حتى عالما كبيرا في مثل مكانة ستروس.
ويمكن القول إن بدايات الإنثروبولوجيا تمحورت حول جمع معلومات عن الإنسان وتفاصيل حياته في أمريكا الشمالية، وفي أمريكا الجنوبية كذلك، خلال القرنين السادس والسابع عشر، ثم تحولت في القرن الـ 19 إلى علم متطور، وارتبطت نشأة الإنثروبولوجيا بالاستعمار، ثم حاولت الفكاك منه لاحقاً، بعد النصف الثاني من القرن الـ 20 الماضي، ولم تتمكن من فعل ذلك بشكل نهائي، وما زالت تحاول التحرر من المقولات التي رافقتها في مرحلة التأسيس، التي ولدت بالتزامن من المرحلة الاستعمارية.
الاستشراق الأمريكي
يحمل الاستشراق الأمريكي بين طياته عناصر العقيدة الدينية والسياسية، ومثلما شجعت عقيدة القضاء والقدر الامتداد نحو الغرب في شمال أمريكا، فإن نبض القرن الـ 19 لامتداد نفوذ الولايات المتحدة إلى الشرق اعتمد على رغبة لتصدير المسيحية و»الحضارة» إلى السكان الكفرة في الشرق. وتركزت أنظار الولايات المتحدة على فلسطين، «الأرض المقدسة» و»أرض التوراة»، بصفتها مكاناً يجب أن تُعاد فيه المسيحية ومملكة إسرائيل، واسترداده من المسلمين الدخلاء». وعزز فهم الغرب للإسلام حواجز أمام التفاهم بين الغرب والشرق، ويجد ذلك مرجعيته في عهد الصليبيين.
ومثل نظرائهم الغربيين بدأ كتّاب الولايات المتحدة يكتبون عن الإسلام وعرضه بشكل متحيّز وإقصائي، وفي هذا الإطار الاستشراقي، نمت موازنة عرب فلسطين باليهود الحمر، «غير المتحضرين»، بل أكثر من ذلك. وبسبب المكانة ذات المغزى للأرض المقدسة عند المسيحيين الغربيين، تمّ تقديم الفلسطينيين بوصفهم غرباء في بلادهم، فهم ليسوا من الشعوب المذكورة في التوراة، كما أنهم ليسوا مسيحيين أو يهوداً، ولذلك فهم غرباء عن التراث المسيحي اليهودي «الصحيح».
وفي الآونة الخيرة، خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، كثرت الدراسات حول الإسلام والحركات الإسلامية والإسلام السياسي. وصار الإسلام موضوعاً مثيراً في البلدان الأوروبية والولايات المتحدة، وظهرت دراسات مجحفة في حق العرب والإسلام، وتتحدث عن الطبيعة الجامدة والعنفية للدين، وتقترح اتباع سياسات تغييرية، وتطاول الجاليات المسلمة في أوروبا والولايات المتحدة ومصيرها. وقد طرح المستشرق المعروف برنارد لويس نظرياته وآراءه في هذا المجال، حيث اعتبر في عام 2002 أن معارضة التدخل العســــكري الأمريكـــي يعنـــي رفض الديمقراطيـــة في المنطقــــة، وأن غزو العراق، الذي يمثل «حملة للديمقراطية»، تثير موقفين مختلفين من قبل الأمريكيين، الأول، يتلخص في أن العرب عاجزون عن إقامة الحكم الديموقراطي، وهم ـ أي العرب ـ مختلفون عنّا (أي الأمريكيين), وعلينا أن نكون, بمعنى من المعاني, أكثر معقولية فيما نتوقعه منهم وما يتوقعونه منا. ومهما فعلنا فإن تلك الدول ستبقى تحت سلطة طغاة فاسدين، وعليه فإن هدف سياستنا الخارجية يجب أن يكون ضمان أن يكونوا طغاة أصدقاء وليس معادين. بينما يختلف الموقف الآخر إلى حد ما، رغم أنه يبدأ من النقطة ذاتها تقريباً, وهي أن البلاد العربية ليست ديمقراطية، وأن إقامة الديمقراطية في المجتمعات العربية ستكون مهمة صعبة، لكن العرب قابلون للتعلم، ومن الممكن أن يتوصلوا إلى الديمقراطية, شريطة أن نرعاهم ونطلقهم بالتدرج على طريقنا هذا، ويخلص إلى أن هذا الموقف يعرف بـ»الإمبريالية». وهو نهج استعملته الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية في بعض مناطق الانتداب والمستعمرات, وأدى إلى خلق حكومات على صورة حكوماتهما. فقد أقام البريطانيون في العراق وسورية وغيرهما ملكيات دستورية, فيما أقام الفرنسيون أنظمة جمهورية مفتقرة إلى الاستقرار. ولم تبرهن هذه الأنظمة على نجاح كبير, لكن مع ذلك هناك أمل.
وتعد الدراسات الإسلامية، التي ظهرت أخيرا في الولايات المتحدة، صعود الحركات الإسلامية وتراجع التيارين القومي والاشتراكي يقدم الدليل على أن الردود العربية والإسلامية على الهيمنة الغربية مغرقة في التعصب الديني اللاعقلاني، بدءاً من المقاومة الفلسطينية وانتهاء بالخطاب الفكري المعادي للإمبريالية وقوى الهيمنة. ولهذا كان برنارد لويس مرتاحاً لصعود النزعات المتشددة والمتطرفة، وبروز زعامات من أمثال أسامة بن لادن, حيث وصفه بأنه ذلك «الصوت الشاعري البليغ المعبّر عن الغضب الإسلامي»، ويعده برهاناً على صحة أطروحاته ونظرياته.