الدبلوماسية السعودية الوقائية في لبنان
لا يمكن فهم أبعاد الزيارة التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الأسبوع الماضي إلى لبنان بشكل منفصل عن دور المملكة التاريخي في إطفاء حرائق لبنان وقربها من الأحداث فيه، ووجودها في كل فصوله، وهو جزء من رؤية سعودية عامة تنطلق من رغبتها وقدرتها على التحرك لدفع الضرر. فالمملكة هي التي بذلت كل الجهد لوقف ألسنة اللهب في الحرب الأهلية التي طالت كل لبنان، وفي قمة الرياض 1976 كان القرار العربي بإرسال قوات عربية لوقف القتال. ثم كانت الطائف 1989 التي أنهت الحرب رسميا، وتم تسجيل الدروس المستفادة في وثيقة الوفاق الوطني. ثم تفجرت الساحة باغتيال الحريري وتهتك نسيج العلاقات بين أبناء لبنان، وبين لبنان وسوريا. وكانت المملكة دائماً على المسرح، ثم جاء تركيز خادم الحرمين على إصلاح المحور السعودي السوري، وكانت الزيارات المتبادلة لخادم الحرمين والرئيس بشار الأسد إعلاناً عن أن مصلحة الأمة العربية فوق أي اعتبارات أخرى وتنقية الأجواء اللبنانية السورية. ولا شك في أن خادم الحرمين يحلم بمصالحة سورية- مصرية تعيد المثلث العربي السوري المصري السعودي إلى فعاليته، مثلما يحلم بجمع شمل الأسرة العربية الواحدة على قلب رجل واحد تواجه مصيرها بنفسها وتدفع عما يراد لها.
ولأسباب لا مجال لتفصيلها صار شبح اغتيال الحريري يحوم والعدالة فيه تختلط بالسياسة، ولكنه يهدد وحدة لبنان والعلاقات السورية اللبنانية، ولكل مجاله، فالعدالة يطلبها الجميع، وأما العبث بملف سوريا ولبنان فهو الأوضح. عند هذه النقطة لم يتردد خادم الحرمين بالمسارعة إلى دمشق، واصطحب الرئيس بشار إلى بيروت في زيارة نادرة، ليكون للملك عبد الله فضل إعادة سوريا إلى لبنان بوجه جديد وروح جديدة وبمباركة سعودية. فلهذه الزيارة قيمة مركبة، هي أولاً تعزيز لما بناه خادم الحرمين من صرح جديد لعلاقة سعودية- سورية صميمة، وتؤكد نقاء المسعى وإشعار سوريا بأنها جزء عزيز في أمتها العربية.
القيمة الثانية للزيارة هي أنها تمثل تحديا للمحظور إسرائيلياً وغربياً وهو لحمة العلاقات السورية- اللبنانية، فالعدالة للحريري وللبنان هي عدالة لسوريا، والكل يهمه استظهار الحق في هذه المحنة التي أصابت الأمة العربية قبل لبنان وعلاقته بسوريا، وقد تابعت هذا الملف وأصدرت فيه عددا من البحوث والكتب لعلاقته بصلب المصلحة العربية ونوهت بدور المملكة في لبنان، ليكون ذاكرة المؤرخين والمحللين عن مرحلة عايشتها بأحداثها، ونشرت كتابا في جدة عام 1989 بعنوان ''المملكة العربية السعودية وقضايا الصراع العربي الإسرائيلي''. وأظن أن معالجة دور المملكة في الملف اللبناني ضمن الصراع العربي الإسرائيلي يحتاج إلى تفصيل.
إن قيمة الزيارة في دعم لحمة النسيج اللبناني وتنقية اللحمة السورية واللبنانية، ووقوفهم جميعاً طلباً للعدالة في قضية الحريري، بعد أن كان مجرد ذكر محكمة الحريري تثير الفتنة في الداخل ويضرب علاقات سوريا بلبنان، فقد حل خادم الحرمين عقدة خطيرة ومركباً صعباً بمجرد الزيارة، ولا عبرة لما تردده بعض الأوساط من أن العبرة بالنتائج، فالمعلوم أن المسعى ينفصل عن نتائجه، لأن النتائج تحددها أطراف وتفاعلات لا سيطرة للمملكة عليها. إنها دبلوماسية وقائية حتى لا يعود لبنان إلى حرب أهلية جديدة أشد ضراوة من حرب السعبينيات والثمانينيات.