المتدين وما يواجهه من إشكاليات (1 من 10)

هناك كم كبير من الإشكاليات التي يواجهها المتدين في وقتنا الحاضر، فهناك من يريد أن يلصق بالمتدين صفة التطرف، فالمتدين، من وجهة نظر البعض، يمتلك شخصية قابلة ومستعدة لأن تتحول إلى التطرف بشكل أسرع بكثير من الشخصية غير المتدينة. وهناك من يضع التدين في مقابل الانفتاح، فشخصية المتدين عندهم شخصية تتمحور حول ذاتها، وأن وجهتها دائما نحو الداخل، وهي تعطي ظهرها للآخرين، فهؤلاء الآخرون في دار غير دارها وفي عالم غير عالمها، فشخصية المتدين عندهم لا تقبل الحوار مع الآخر، بل إنها غير قادرة على تعلم فنون الحوار؛ لأنها تنطلق دائما من علو تجد نفسها فيه في مقابل الآخرين.
وهناك من يرى في التدين جوانب وأمورا تنتقص من إنسانية الإنسان، فالإنسان المتدين ينزع إلى تقييد الأشياء وتحريمها، فالمتدين ينظر إلى الدين على أنه منظومة من القيود والمحرمات أكثر ما ينظر إلى الدين على أنه تعزيز لخلافة الإنسان التي أرادها الله له كي يتحرك في دائرة واسعة من الحرية بما أعطاه من قدرات وحباه من إمكانات جعلته أفضل المخلوقات. ويضيف هؤلاء أن مثل هذا التدين الذي ينطلق من التقييد ويتكئ على التحريم هو الذي جعل المجتمعات المتدينة أكثر رفضا وممانعة لفكرة الحقوق الإنسانية، فالمتدين منشغل في البحث والتنظير عما يقيده ويحد من حريته أكثر من البحث عن حقوقه كإنسان استخلف على هذه الأرض ليعمرها.
وبناءً على هذه الفكرة عند المتدين صارت الدنيا سجن المؤمن، وصار التدين الحق هو نبذ هذه الدنيا والتخلي عن الانغماس في شؤونها والتطلع إلى الآخرة وما ينتظره فيها من نعيم. وفي إطار هذا التدين المحكوم بالتحريم والتقييد، أعيد إنتاج كثير من الأحكام والرؤى والتشريعات الدينية، التي تحد من حركة الإنسان في حياته، فالإنسان المتدين من أجل أن يمارس تدينه وبشكل صحيح عليه أن يُنظِّم كل شيء في حياته وفق أمور وترتيبات قيل له إنها أمور دينية.
ويُتهم المتدين أيضا بأن عقلية التحريم عنده اتسعت لتلغي في دائرتها كثيرا من الحقوق، ومنها حقوق المرأة، بل إن كثرة ما سلب من حقوق المرأة من قبل المتدين، وليس الدين، جعل كثيرا منهم يعتقد أن المجتمعات الإسلامية هي مجتمعات ذكورية، وأن المرأة في الإسلام أقل رتبة في الخلق من الرجل، وأن المرأة مخلوق خُلق لمتعة الرجل وخدمته، وبالتالي فلا مكان للحديث عن حقوق المرأة إلا في إطار حقوق الرجل ومتطلباته. إن كان في خروج المرأة وعملها ما قد يثير شهوة الرجل ويؤدي ذلك إلى السقوط في الحرام وحرمانه من الجنة بسببها فإن عليها أن تجلس في بيتها وأن تحرم نفسها ومجتمعها من قدراتها وعطائها. وإن كان في تعليمها ما يجعلها تشارك الرجل في تطور الحياة وبناء المجتمع، مزاحمة لقيادة الرجل في المجتمع فإن هذا في نظر كثير من المتدينين الخروج بالمرأة عن مكانها الطبيعي، وهو البيت لخدمة بيتها ورعاية شؤون أسرتها.
ويواجه المتدين تهمة أخرى، وهي أن علاقته بالعلم علاقة قلقة ومضطربة، فمرة ترى المتدين يواجه محاولات التفكير بحملة من التكفير لهؤلاء المفكرين بحجج كثيرة، لكنها كلها تدور حول نقطة واحدة، وهي أن عقل الإنسان صحيح له قدرة عظيمة إلا أنه لا يؤمَن طرفه، فقد يخرج بالإنسان إلى الكفر أكثر مما قد يأخذ به إلى الإيمان العميق، فهناك عدم ثقة من المتدين بعقل الإنسان، وبالتالي فمن الطبيعي أن يشكل هذا الموقف وعدم الثقة هذه حجرَ عثرةٍ في طريق المتدين للدخول في فضاء العلم والمعرفة. التكفير في مواجهة التفكير، والتفسيق في مواجهة التحقيق والدراسة، والتشكيك في نوايا المفكرين والمحققين، والتقديس للمقلدين والمرددين لأفكار السابقين من غير نقد أو مراجعة، كلها في نظر البعض جعلت المتدين في حالة تنافر مع العلم وجعلتهم نفوسا لا تهضم فكرة أن ليس في العلم تهديد للدين.
فالموقف من العلم من الإشكاليات المعتبرة أمام المتدين، ولن يستطيع المتدين أن يقنع نفسه أو يقنع الآخرين بأن ما عنده من نصوص دينية يتكئ عليها لبيان فضل العلم والعلماء يكفيه لتفكيك هذه التهمة وردها عنه؛ لأن واقعه وممارساته تكشف عن غير ذلك، فما توحيه له تلك النصوص الدينية هو عن علم محدود جدا، وأن الفضل الذي تشير إليه لفئة محدودة من العلماء، وهذا أصل الإشكالية.
وتأتي الثقافة بعد العلم في سلم الإشكاليات التي يواجهها المتدين، فهل على المتدين أن يكون مثقفا ليمارس تدينه بشكل صحيح، أم أن التدين حالة تريد أن تستفرد بالإنسان؛ لأن الثقافة لها فعل معاكس للتدين؟ فالثقافة تأتي بأشياء وتفتح نوافذ وأبوابا قد تدخل منها أمور تخفف من حالة التدين عند الإنسان. بل إن المتدين في كثير من الأحيان يرى أن الثقافة محاولة لإبعاد الدين عن مسرح الحياة والمجتمع، وبالتالي فعلى المتدين أن يجتهد في مواجهة الثقافة وصدها، فالغزو الثقافي القادم من الخارج أو الداخل يشكل عند المتدين من الهموم الكبيرة، فالثقافة نوع من أنواع التهديد في نظر المتدين.
وهناك مسألة مهمة أخرى يواجهها المتدين، وهي أن المتدين لا يدري أين يعيش، فهناك من يريد منه أن يعيش في الماضي؛ لأن هذا الماضي أطهر وأنقى وأصفى من الحاضر المملوء بكل ما يخالف الدين والطهارة، فالقرون الماضية أفضل من الحاضر، وستكون أفضل من القرون المقبلة. وهناك من يريد منه ألا يرتبط بهذه الدنيا، وألا يكون له دور في إعمارها وبنائها؛ لأنه خلق لغيرها وعليه أن يقفز على هذه الدنيا ليصل إلى الآخرة ويعيش فيها. المتدين كإنسان يجد عنده من الفطرة ما يحبب إليه الدنيا وما فيها من لذات، لكنه يجد في تدينه ثقافة ودعوات تنفره من هذه الدنيا وتحذره من الاستجابة لها وما قد يجد فيها من مغريات. فالبعض يرى أن المتدين لديه علاقة مشوشة ومضطربة مع هذه الدنيا، فلا هو مقبل عليها ولا هو مدبر عنها، وحالة الوسط هذه أوجدت عنده عدم ارتياح، بل إن البعض يتهم المتدين بأنه يعاني انفصاما في الشخصية بسبب هذه العلاقة غير الواضحة وغير المستقرة مع الدنيا.. فكيف لمن يذم الدنيا ويراها فتنة يجب الحذر منها عليه أن يشارك في إعمارها؟
هذه نماذج من التهم التي توجه للمتدين، وهي وإن كان بعضها لا يعبر بموضوعية عن واقع المتدين وحقيقته بشكل عام، إلا أنها تعد إشكالية قائمة أمام المتدين. مناقشتنا هذه الإشكاليات ومحاولة تفكيكها يأتي في إطار السعي إلى فهم التدين وشخصية المتدين في وقتنا الحاضر. ليس بمقدورنا أن ننكر أن العالم اليوم يضج بالحديث عن التدين والمتدينين، ليس فقط في المجتمعات اللادينية، إنما حتى في المجتمعات الدينية، فهي الأخرى مهمومة بكيفية التعامل مع التدين. هناك من يرى وجود علاقة بين التدين، على الأقل في شكله الحاضر، وظهور ثقافة التطرف وانزلاق الأفراد والمجتمع في دائرة العنف والإرهاب، وهناك من يجد في التدين عقبة في طريق عولمة حقوق الإنسان، بل هناك من الناس من يحمّل التدين مسؤولية الارتداد عن الحرية وتقليصها في المجتمعات المدنية، فالتسارع بين الدول إلى تشريع القوانين والأنظمة التي تحرّم النقاب وغيره من المظاهر الدينية، يفسره البعض بأنه ردة فعل سلبية لظاهرة التدين المشوه.
في إطار هذا الموضوع ستتم مناقشة جملة من الإشكاليات، نبدأ بإشكالية من أين يأخذ المتدين تدينه، ومن ثم إشكالية المتدين لنفسه كإنسان، وبعده تأتي إشكالية المتدين مع التجديد الديني والمذهبية والنظرة إلى الحياة، ومن بعدها تأتي إشكالية المتدين مع الثقافة والتراث والآخر والعلم ومفهوم التنمية والفنون وغيرها. قد تكون هذه الإشكاليات العشر أو الأقل أو الأكثر لا تضم كل ما يواجهه المتدين من إشكاليات، إلا أنها بالتأكيد تشمل بعض أهم الإشكاليات، التي تساعد كثيرا على فهم أزمة المتدينين مع مجتمعاتهم في الوقت الحاضر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي