الفراغ يقطع أولادنا

أثناء حديثي مع أحد الأصدقاء، ذكر لي أن ابنه خالد يسهر كل يوم مع أصحابه في إحدى الاستراحات في مدينة الرياض حتى الساعة السابعة صباحاً، ثم يتجه مع أصحابه لتناول وجبة الإفطار في أحد المقاهي أو المطاعم الشعبية، ليتجه بعدها إلى بيت أهله وينام حتى الساعة السابعة مساء، ليستيقظ عند ذلك عابساً غاضباً ومتذمراً من حياته والفراغ الذي يعانيه، وكيف أنه يتمنى الموت على الحياة الرتيبة والمملة، غير آبه لحقوق الله وحقوق أهله وحقوق نفسه. هذا وضع يصف حال أولادنا، في فترة الصيف (ورمضان أيضاً)، ويندرج هذا أيضاً على أطفالنا داخل بيوتنا من السهر على الإنترنت وألعاب الفيديو والقنوات الفضائية والمحادثات عبر الجوال، يقلبون الليل نهاراً والنهار ليلاً، يبحثون عن طرق لقتل أوقات فراغهم، بدلاً من استثمار هذه الأوقات فيما يفيدهم وينميهم, وفي الوقت نفسه يسليهم. ترى هل هذا يعكس ثقافة المجتمع، أم هي ظاهرة عابرة أو مؤقتة يمكن علاجها، أم هي ظاهرة عالمية تعكس طرق تفكير وتوجه جيل الشباب الحالي في ابتكار طرق جديدة في كيفية قضاء أوقاتهم؟
عشنا في أمريكا وفي أوروبا، في مختلف فصول السنة، في الصيف وغير الصيف، وفي مختلف المواسم الدينية، رمضان وغير رمضان، ولم نر تغيراً في نمط حياة المسلمين وغير المسلمين، فالعمل يستمر في النهار وحسب الأوقات المعتادة "وجعلنا النهار معاشا" "بورك لأمتي في بكورها"، والناس ينامون في بداية المساء، عند الساعة التاسعة مساءً "وجعلنا الليل لباسا". والإنتاجية لا تتغير في رمضان، بل قد تزيد في بعض الأحيان، خصوصاً في الأعمال المكتبية البعيدة عن العمل الميداني والعمل الجسدي. في الصيف مثلاً، ترى العائلات تتنقل بين الولايات الأمريكية من أجل السياحة الداخلية الخلابة (وبأسعار معقولة)، يتنقلون بطريقة منظمة، لا فوضى ولا زحام، ترى السيارات عندما تغادر متنزهاً أو مدينة ألعاب عند الساعة السادسة مساء، وكأنها عربات قطار، متراصة، تتحرك بنظام وبكل احترام، ليصلوا بعدها إلى أماكن سكنهم، لتناول العشاء، ثم الذهاب إلى النوم والاستيقاظ مبكراً في اليوم التالي عند الساعة السادسة صباحاً، لا فرق بين إجازة وعمل، فاليوم يبدأ دائماً مبكراً لدى المجتمع الغربي. وأما القراءة فهي عادة يومية لا تفارق الكبير ولا الصغير، وقد تزيد في الصيف عنها في المواسم الأخرى، حيث هناك وقت فراغ أكبر يمكن استثماره في القراءة والثقافة.
عادة السهر في الليل حتى الصباح، في الصيف وفي رمضان، ومن ثم النوم إلى المساء، عادة صاحبت مجتمعنا لعقود مضت، لتشكل ظاهرة مقلقة وخطيرة تؤثر في أخلاقيات وقيم وإنتاجية أبنائنا وبناتنا. عندما نتحدث عن معدل إنتاجية الموظف في المملكة مقارنة بالدول المتقدمة، سنجد أنها منخفضة جداً، ونجزم بأننا لو قسنا إنتاجية ومستوى الطلبة العلمي في المملكة بمثيلاتها في الدول المتقدمة، لوجدنا أيضاً أنها منخفضة جدا، وقد لا يكون هناك مجال أصلاً للمقارنة. شخصية وعطاء وانضباط وإنتاجية الموظف تتشكل بشكل كبير خلال دراسته، فإذا كان الطالب لا يتمتع بالجدية في دراسته في التعليم العام، ولا يكرس وقته وجهده لحل واجباته بنفسه، ويعتمد على مدرسين خصوصيين لتجاوز الاختبارات، فمن المؤكد أن طالباً عاش بهذه الكيفية سيتحول إلى موظف غير منتج، يعتمد على آخرين (وغالباً أجانب) لقضاء أعماله وإنجاز مهام وظيفته، ولنا أن ننظر في حال بعض الجهات الحكومية، فيمن يعمل ومن لا يعمل.
ترى ما الذي أوصل حال أولادنا إلى ما هم عليه؟ من المسؤول عن حالة التيه والضياع والتشتت التي يعيشها أولادنا؟ هل هي رغبات يفرضها أولادنا علينا، وليس لنا خيار إلا أن نخضع لهم وننصاع لطلباتهم, أم هي حالة حصلت بطريقة عشوائية وتدريجية، دون تخطيط أو مراقبة من الجهات المسؤولة؟ قد يكون ما حصل نتيجة لهذا كله، لكننا نريد حلولاً عملية وبمشاركة أولادنا. الأسرة، التعليم العام، الجهات الحكومية المنظمة للسياحة ولأوقات عمل المطاعم والملاهي والاستراحات والمرور، الإعلام بجميع أشكاله، والأولاد أنفسهم شركاء في مشروع يمكن تسميته "أولادنا واستثمار الوقت". يجب أن نعي ونفرق بين الحرية والفوضى، فالحرية قد تصل إلى مرحلة الفوضى، وهذا ما يعانيه أولادنا، فهم يعتقدون أن ممارسة التفحيط ومضايقة المارة من نساء وغيرهم جزء من حريتهم. نعم الأسرة هي المسؤول الأول عن تنمية وتشكيل أخلاق الطفل حتى سن دخول المدرسة، ليصبح دورهم أقل في ظل التأثير القوي للمدرسة، حيث المعلم والإدارة والبيئة التعليمية. فاذا كانت الأسرة تدير أوقاتها بطريقة عملية ومفيدة، يتعلم فيها الطفل أهمية الوقت، فينمو محبا للقراءة والثقافة والرياضة وتنظيم الوقت، لكن مع الدخول في سلك التعليم العام، قد تتغير هذه السلوكيات ليحل محلها تلك العادات والسلوك المهيمنة على المجتمع. الأولاد يرددون ويطلبون دوماً بمساواتهم بالآخرين وبأنهم لا يريدون أن يكونوا مختلفين عن أقرانهم في المدرسة أو عن الأولاد في الحي.
والعجب العجيب أننا لا نرى الإخوة غير السعوديين المقيمين في المملكة يمارسون عادات السهر وتضييع الوقت فيما لا ينفع، وكان من الطبيعي أن نرى أولادهم متفوقين علمياً وعملياً، خصوصاً في التخصصات العلمية، الطبية والهندسية. ومع دعواتنا للجميع بالتوفيق والنجاح، إلا أنه يحزننا أن نرى الوقت يقطع أولادنا.
وللحديث بقية...

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي