النفسُ مثلُ الطَّقْسِ!

حين أراد الفلاسفة والمفكرون وضع توصيف لمصطلح ( النفس ) أتعبوا أنفسهم تعباً شديداً ولم يصلوا مجتمعين أو متفرقين إلى تعريف شامل ودقيق يصلح لكل الأوقات، لأن النفس كائن لا يثبت على حال أبداً، فلو استقر سطح الماء الذي يغلى في القدور، لاستقر حال النفس التي تسكن في الصدور، ولكن شأن النفس أن تجمع بين الشيء ونقيضه في آن واحد.. فقد تجمع بين الضحك والبكاء، أو بين الخوف والرجاء، أو بين الشجاعة والجبن.. الخ، فبأي معيار سيُحكم عليها؟!.

لقد بحثتُ كثيراً عن تفسير مُقنع عن ( النفس ) فخرجت بألف سؤال، وقد كنتُ أبحثُ عن إجابة واحدة، ذلك لأن الانطباع الشخصي لم يغبْ عن حرفٍ واحدٍ من تعريفِ من تصدوا للمُعضلة، أو لأن الإحاطة بكل جوانب النفس يُعَدُ أمراً مستحيلاً في ظل محدودية الزمان والمكان والمدى الفكري، وهو أمور تحاصر رأس المُفكر أو الفيلسوف حين يقرر الغوص في عالم غامض ومجهول، لذا قررتُ أن أريحَ رأسي من عناء البحث والقراءة لأني لن أصل إلى شيء.

حتى جاء يومٌ من أيام الصيف.. حرارة شديدة تُظاهرها رطوبة عالية، وهو أمر غير معتاد على الذين يقطنون رِيفَ مصر من ناحية البحر.. المهم راحَ اليومُ يمضي بطيئاً، وكلما اتجهت الشمس إلى التعامد كلما مارست الحرارة جَلْدَ رؤوسنا بسياطها الطويلة.. حتى جاءت الظهيرة، فتوقعنا ساعة من الذروة.. فكان العكس!.. هبت رياحٌ، فحركت سُحُباً، فهطل المَطرُ وابلاً!.. وقفنا نكبر ونهلل وعلامات التعجب ترتسم على وجوهنا.. وسط ذلك، أطلقت أمي إحدى حِكَمِها العفوية، فقالت: ( الطقس اليوم زى النفس )، فاستدرت إليها وقلت في دهشة: كيف؟!.. فقالت: تأمل حال الناس معك، وسوف تعلم أن نفوسهم مُتقلبة كطقسِ اليوم!.

نظرتُ في قول أمي فوجدته جديراً بالتأمل لأنه ألمَحَ إلى رابطٍ يجمع بين الإنسان وبين ما يحيط به من ظواهر ومخلوقات.. هذا الرابط يتمثل في خصائص وسمات مشتركة، أبرزها سِمَة التقلب بين حالين أو أكثر، فاليوم يتقلب بين ليل ونهار، والشمس تتقلب بين غروب وشروق، والرياح تتقلب بين سكون وهبوب، والطقس يتقلب بين حار وبارد.. وهكذا، فالتقلب هو الثابت الواضح في سلوك كل الأشياء، وبما أن الإنسان عينة تمثل مفردات الكون في أحواله المتباينة، لذا تأتي نفسه مُتقلبة بين سكون وحركة، وبين ضحك وبكاء، وبين فرح وحزن، وبين حب وكره، وبين قناعة وطمع، وبين رضاً وسخط.. الخ، لتكون مثل الطقس في أحواله!.

وعلى ذلك يمكن أن نفهم شيئاً بشيء، ونفسر ما لا نفهمه بشيء نفهمه، لأن ثمة علاقة تربط بين مفردات الكون، والأمر فقط يحتاج إلى بعض التأمل والنظر، لكن السباحة نحو معرفة كُنْهِ الشيء ومن ثم تعريفه بشكل دقيق وشامل ومستمر يعد أمراً مستحيلاً حسب رأيي الشخصي المتواضع، فمن أراد أن يضع تعريفاً للنفس فليضع تعريفاً للماء، أو للسماء، أو للأرض، أو للبحر، أو لليل، أو للنهار.. هناك من يقول: توجد تعريفات لتلك الأشياء.. نعم توجد، لكنها نبعت من زاوية إبصار معينة، ولقد ثبت أن ما لا نراه في الأشياء أكْبَرُ كثيراً مما نراه.. فكيف يكون التعريف سليماً؟!.

قال الله تعالي: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ} الآية (38)،(39) سورة الحاقة.

* باحث في علم الإحصاء – مصر

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي