توتر العلاقات التركية - الإسرائيلية والقيمة القانونية للاعتذار
لا يزال التوتر يسود العلاقات التركية ـ الإسرائيلية بسبب العدوان الإسرائيلي على سفن أسطول الحرية في المياه الدولية في البحر الأبيض المتوسط, ووضعت تركيا ثلاثة خيارات أمام إسرائيل لتحسين علاقاتهما, وحددها وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو كما يلي:
1 - إما أن تعتذر إسرائيل رسميا عن الهجوم العسكري على أسطول الحرية في المياه الدولية.
2 - وإما أن توافق على تكوين لجنة تحقيق دولية محايدة حول هذا الهجوم.
3 - وإما أن يتم قطع العلاقات بين الدولتين بشكل كامل.
وأضاف الوزير التركي قائلاً إن حكومته رسمت خريطة طريق للعلاقات مع إسرائيل بعد الهجوم على سفن أسطول الحرية تتضمن بعض الإجراءات التي طبقت بالفعل فور وقوع الهجوم، وأحد هذه الإجراءات اتخذ بعد أسبوع واحد من الهجوم الإسرائيلي، وهو إغلاق المجال الجوي التركي أمام الطيران العسكري الإسرائيلي.
وأكد أن المجال الجوي التركي أغلق بشكل كامل ونهائي أمام الطيران العسكري الإسرائيلي، خلافاً لما أعلنته وزارة الخارجية التركية أنها ستتم دراسة طلبات عبور الطائرات العسكرية حالة بحالة، قائلاً إن ''المجال الجوي أغلق تماما, ولم نتخذ القرار حتى ندرس الطلبات الإسرائيلية بعد ذلك كلاً على حدة، هو إغلاق تام ونهائي''، وقد يمتد بعد ذلك إلى الطيران المدني الإسرائيلي.
وشدد الوزير التركي على أنه إذا لم تتخذ إسرائيل الخطوات المطلوبة فإن عملية فرض العزلة عليها من جانب تركيا ستستمر، قائلاً ''نحن على صواب في اتباع هــــذه الوسائل وسنواصل العمل بها بصرامة إلى أن يتم تنفيذ مطالبنا، ولقد أظهرنا لهم أن هناك طريقا للخروج من الأزمة، وهو الاعتذار بناء على نتائج التحقيقات التي قاموا هم بإجرائها، وسيكون هذا أمرا جيدا بالنسبة لنا، لكن يجب أن نرى ذلك أولاً''.
وتابع: ''لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أعلن قبل يومين أن إسرائيل لن تعتذر، ولن تقدم تعويضات لأسر ضحايا الهجوم الإسرائيلي على السفينة التركية مرمرة الزرقاء، وبهذا الشكل فإن العلاقات لن يتم تصحيحها مرة أخرى ولن تعود كما كانت عليه من قبل''.
وذكر داود أوغلو أن الإسرائيليين إن لم يكونوا راغبين في الاعتذار فعليهم القبول بتشكيل لجنة تحقيق دولية محايدة، لافتاً إلى أن تركيا لن تنتظر القرار الإسرائيلي إلى أجل غير مسمى، ولن تنتظر تشكيل لجنة تقصي حقائق تحت مظلة الأمم المتحدة وستطبق خريطة الطريق الخاصة بها.
ويدعوني الموقف التركي إلى أن أسلط بعض الضوء على الاعتذار في القانون الدولي كشكل من أشكال إصلاح الضرر المعنوي في العلاقات الدولية. لقد تناول بعض فقهاء القانون الدولي في مؤلفاتهم موضوع المسؤولية الدولية عن الأضرار التي تلحقها الدول بغيرها من الدول والأفراد, وأذكر في هذا الشأن كتاب ''الحقوق والواجبات الدولية في عالم متغير'' للدكتور علي إبراهيم، أستاذ القانون الدولي العام في كلية الحقوق في جامعة عين شمس, وكتاب ''المطالبة الدولية لإصلاح الضرر في القانون الدولي العام والشريعة الإسلامية'' للدكتور عبد الغني محمود، أستاذ القانون الدولي العام في جامعة الأزهر، وعلى هذين الكتابين نعتمد في بيان الأهمية القانونية للاعتذار كوسيلة من وسائل جبر الضرر. وتحسن الإشارة في البداية إلى أنه إذا صدر عن الدولة فعل غير مشروع طبقاً للقانون الدولي فإنها ملزمة بإصلاح ما ترتب على ذلك الفعل الضار حيال الدولة التي ارتكب هذا الفعل ضدها أو ضد أحد مواطنيها أو ضد أموال الدولة أو أموال مواطنيها. ووسائل إصلاح الضرر المادي إما تكون في صورة تعويض عيني, أي بإعادة الحال إلى ما كانت عليه إن كان ذلك ممكناً, وإما تكون في صورة تعويض مالي, أي دفع مبلغ من المال للطرف المتضرر بهدف جبر الضرر. وهناك مبادئ تحكم كيفية إجراء التعويض وتقديره, لسنا هنا بصدد الحديث عنها. أما وسيلة التعويض عن الضرر المعنوي فتكون عن طريق (الترضية), واستقر العرف الدولي على عدة أشكال للترضية، منها الاعتذار وإعلان عدم مشروعية الفعل الضار، وتقديم مبلغ من المال يكون عادة رمزيا، وقد تتم الترضية بواحدة من هذه الوسائل الثلاث، وقد تتم بها جميعاً، ويضرب بعض فقهاء القانون الدولي مثالاً بقضية سفينة Iam alome, التي حكم فيها بالترضية في أشكالها المتعددة سالفة الذكر، وتتلخص هذه القضية في أن زورقاً من خفر السواحل الأمريكية أغرق سفينة بريطانية مسجلة في كندا كانت تحمل مشروبات كحولية مهربة، وتم إغراق السفينة في أعالي البحار، وبدأت المطاردة الحرة للسفينة خارج المياه الإقليمية للولايات المتحدة إلا أنها كانت في نطاق منطقة التفتيش التي نصت عليها اتفاقية المشروبات الكحولية بين الولايات المتحدة وبريطانيا سنة 1924، واشتكت كندا من إغراق السفينة، وطالبت بأن يتم الفصل في هذه القضية وفقاً لقرار اللجنة المختلطة الخاصة التي يعين أعضاؤها وفقاً لاتفاقية 1924 سالفة الذكر، وجاء في قرار اللجنة أن إغراق السفينة بواسطة ضباط السواحل الأمريكيين عمل غير مشروع. وبناء عليه حكمت بأن على الولايات المتحدة أن تعلن رسمياً اعترافها بعدم مشروعية هذا العمل، وتعتذر للحكومة الكندية عن ذلك، وتدفع مبلغ 25000 ألف دولار كترضية مالية عن الخطأ الذي حدث, المتمثل في انتهاك حقوق كندا في البحار. وإضافة إلى هذه الترضية قررت اللجنة أن تدفع الولايات المتحدة تعويضاً مالياً لحكومة كندا لمصلحة قبطان السفينة وأعضاء طاقمها الذين ليس بينهم أي فرد يقوم بتهريب المشروبات الكحولية إلى الولايات المتحدة، كما قررت اللجنة عدم دفع تعويض عن خسارة السفينة أو الحمولة.
كذلك قررت محكمة العدل الدولية في قضية الرهائن الأمريكيين في طهران عام 1980 أن على إيران أن توقف السلوك غير المشروع وإعادة الحال إلى ما كنت عليه ودفع التعويضات الواجبة.
وقد تصاحب تقديم الاعتذار إجراءات أخرى مثل فصل الموظف العام الذي صدر منه السلوك غير المشروع أو عقابه بما يتناسب مع الخطأ الذي وقع. ومن القضايا التي تم إصلاح الضرر فيها بالترضية عن طريق الاعتذار ومعاقبة مرتكب الفعل الضار، إضافة إلى التعويض قضية Borchgrave بين بلجيكا وإسبانيا أمام محكمة العدل الدولية الدائمة, ففي هذه القضية طالبت بلجيكا إسبانيا, على أثر قتل دبلوماسي بلجيكي في إسبانيا, بأن تقدم إليها الأسف والاعتذار، وتعاقب مرتكب الحادث عقاباً عادلاً، ونقل جثمان الدبلوماسي ـ المقتول ـ إلى الميناء الذي سيسافر منه إلى بلجيكا في موكب عسكري، وتدفع مبلغ مليون فرنك بلجيكي لمصلحة أســـــرة الدبلوماســــي المقتول، تعويضاً عن الأضرار المادية والمعنوية التي أصابتهم بوفاته، ورأت المحكمة الدائمة للعدل الدولي أن الطلبات التي تقدمت بها بلجيكا تتماشى مع مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالمسؤولية الدولية.
نخلص من جميع ما سبق إلى أن الاعتذار يعد أسلوباً حضارياً لجبر الأضرار المعنوية التي لا تقدر بمال، ويساعد على إزالة أسباب الاستياء والتوتر في العلاقات الدولية, وأن المطلب التركي بأن تقدم إسرائيل اعتذاراً رسمياً عن عدوانها المسلح على سفن أسطول الحرية التي كانت تتقدمها سفينة مرمرة التركية، يعد مطلباً مشروعاً تؤيده مبادئ القانون الدولي العام والسوابق القضائية الدولية, وسبق أن قدمت إسرائيل اعتذاراً رسمياً إلى تركيا على أثر المعاملة السيئة للسفير التركي في إسرائيل خلال الاجتماع الذي تم بينه وبين أحد كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الإسرائيلية في كانون الثاني (يناير) 2010 بناء على طلب المسؤول الإسرائيلي إبلاغ السفير احتجاج إسرائيل على عمل مسلسل تلفزيوني تركي يظهر عملاء إسرائيليين يقومون بخطف الأطفال.
وإذا لم تقدم إسرائيل هذه المرة اعتذاراً لتركيا فإنها أعلنت صراحة عزمها على قطع العلاقات مع إسرائيل. وهذه هي المرة الأولى التي تهدد فيها تركيا باتخاذ هذا الإجراء, إذ كانت في السابق تكتفي بالقول إنها قد تعيد النظر في هذه العلاقات. ويلاحظ هنا أن الرئيس السوري بشار الأسد أبدى عدم ارتياحه من احتمال قطع العلاقات التركية ـ الإسرائيلية, لأن من شأن ذلك أن ينهي الدور التركي كوسيط بين سورية وإسرائيل من أجل إبرام اتفاق سلام بين الدولتين.