أنت في غرفة المرايا

للذات صور عديدة معقدة، ويشبه مفهوم الذات قاعة فيها مرايا مختلفة مستوية ومقعرة ومحدبة، فأنى التفت فيها رأيت نفسي على نحو يختلف مع المرايا الأخرى أو يشبهها، فهناك بداية صورتي عن ذاتي التي أدركها أنا، وتشترك في تركيب هذه الصورة استعدادات وراثية وعوامل بيئية. وعلى الرغم من أن الاستعدادات البيئية تشكل بيئة خصبة لنمو مفهوم إيجابي أو سلبي عن الذات، إلا أن الأهم حقيقة هو العوامل البيئية التي أتعرض لها، والتعزيزات الإيجابية والسلبية التي أحصل عليها، واستجابات الآخرين المختلفة لي، فكل ذلك يصنع صورتي الذاتية المدركة، وتتضمن كيفية إدراكي لسماتي الشخصية وقدراتي المختلفة وجاذبيتي في عيون الآخرين، واللافت في الأمر هنا هو أن هذه الصورة قد لا تطابق في كثير من جوانبها صورتي كما يدركها الآخرون.
كما يمتلك معظمنا تصورا عن ذاته يزيد في وضوحه أو ينقص عن صورته التي يراها في عيون الآخرون، فقد أعتقد أن قدراتي ـــ كما أدركها أنا ـــ محدودة، ولكنني أرى الناس من حولي يصفون قدراتي بالتميز، وقد أمتلك صورة أخلاقية جميلة عن نفسي وأجهل ما يقوله الناس عن سوء معاملتي، وتمتد إمكانية هذا التباين إلى مختلف أرجاء الذات.
نأتي إلى المرآة الثالثة وهي الصورة المثالية للذات، أي صورتي عن ذاتي كما أريدها أن تكون، فالإنسان في واحد من أبعاده المهمة كائن يتطلع دوما إلى تجاوز ذاته صاعدا إلى مستويات أعلى، ورغم وعيه بمحدودية كينونته واستحالة وصولها للمطلق في المعرفة أو المثالي في السمات والسلوك ولكنه مع هذا يحاول أن يقترب من هذا المثالي وذاك المطلق قدر ما يستطيع، فهناك كثير من جوانب شخصياتنا قابلة للتغيير بفضل الوعي والعزيمة، فقد ألمس ضعفا في التخطيط الشخصي لحياتي وأعزم على أن أتعلم كيفية التخطيط حتى تغدو حياتي أكثر فاعلية، وقد أدرك أن لدي عيوبا أخلاقية وأقرر أن أتخلص منها وصولا لذات مثالية أسعى إليها.
هذه المرايا الثلاث تعكس أمامي في بعض الحالات صورا متشابهة، وفي بعضها الآخر صورا متباينة فيما بينها، فقد يكون هناك اختلاف كبير بين صورتي المدركة وصورتي لدى الآخرين، أو بين الصورة الأولى والصورة المثالية لذاتي كما أرغب أن تكون، وإذا كانت هذه الاختلافات بين هذه الصور كبيرة فإن هذا سيترك صاحبها واقعا في أزمة هوية حقيقية وستصاب ذاته بشروخ عميقة. ومن هنا تبرز أهمية الوعي بصور الذات وتقريب المسافات بينها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي