في تفكيك أسباب فشل مشاريع النهضة والتنوير العربية

ثمة إجماع على جملة من المُسلّمات المؤسّسة لأي حديث عن واقع وآفاق مشاريع النهضة في الوطن العربي، وبدرجة أوسع، في العالم الإسلامي:
أولها أن الفشل شعار هذه المشاريع، بصرف النظر عن المرجعية الأيديولوجية لمُجمل هذه المشاريع، أو عن الاختلافات والتباينات والخصوصيات اللصيقة بهذه التجربة النهضوية أو تلك.
ليس هيّنا الادعاء بأن هذا المفكر أو ذلك الحاكم، يحمل مفاتيح مفصلية في التنظير وبالتالي تفعيل مقتضيات النهضة؛ بقدر ما يُحسب لهذا الثنائي (ونعتبره الثنائي الحامل لسؤال النهضة والتنوير)، جرأة طرح جملة من الاشتباكات الجدلية اللصيقة بالحديث عن النهضة والإصلاح والتنوير، من قبيل: طبيعة العلاقة بين الدين والتحديث، وبالتالي النهضة، هل يُهدّد حكم الأغلبية الديمقراطي التحرر والحرية للمواطنين الآخرين في أي مجتمع؟ هل يرتبط سؤال النهضة بعقل المفكر أم بفعل صناع القرار أم بهما معا؟
أما ثالث هذه المُسلّمات وأهمها في آن، لأنه يهُم الذات العربية الإسلامية والغربية في آن، فترتبط بتشابك المُسبّبات الذاتية اللصيقة مع المُسبّبات الخارجية، وبالتالي الموضوعية؛ وليست مصادفة، أن تكون أبرز الأسماء العربية التي روّجت لمشاريع إصلاحية نهضوية، (رواد "الإصلاح الديني")، ونخص بالذكر، رفاعة رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، تنتمي إلى الجيل الذي عايش صدمة حملة نابليون على مصر سنة 1798، ونستحضر هنا دلالات رحلة الطهطاوي إلى فرنسا التي دونها في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريس"، أو رحلة الشيخ والمؤرخ الإصلاحي التونسي أحمد بن أبي الضياف إلى الديار ذاتها، وقد دوّنها في كتابه "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان"، بما يُفسر من جهة ثقل الأسباب الخارجية.
نحن معنيون جميعا بالترحال في أسباب الفشل، من أجل تقريب المسافة الزمنية وبالتالي الحضارية بين الحُلْم والواقع، ولو من باب تقريب ذات المسافة على الأجيال القادمة، لأنه من المؤكد أن تحقيق آمال مشاريع النهضة العربية، تلك التي تمَّ التسطير لها نظريا، منذ قرنين تقريبا، لن تتحقق بين عشية وضحاها خلال السنين المقبلة، حتى لا نتحدث عن عوائق وصعوبات التحقق في العقود المقبلة، متشبثين، بالحق في التفاؤل.
ومن بين المُحفزات الراهنة التي تُعجّل بإعادة فتح أسئلة النهضة العربية الإسلامية المُعلّقة، لائحة من المستجدات الدولية العاصفة، شهدتها المنطقة العربية، وبدرجة أعم وأشمل، العقل الإسلامي المعاصر، ونقصد على الخصوص:
صدمة وتبعات حرب 1967، التي اصطُلِح عليها آنذاك بـ "النكسة"، أو الصدمة العربية الأولى في صيغتها القومية.
- صدمة غزو العراق لدولة الكويت عام 1990 وتفسخ النظام السياسي العربي الرسمي وصولا إلى مرحلة احتلال العراق.
ثم صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن، أو الصدمة العربية الثانية في نسختها الإسلامية.
وأسهمت هذه التطورات الدولية العاصفة، وخاصة الصدمة الثانية، في انخراط عديد من المفكرين والباحثين الأجانب، بمن فيهم "جيش" من المستشرقين الأوروبيين على الخصوص، في البحث عن أسباب فشل تحقيق واقع النهضة العربية الإسلامية، والأدهى في انخراط هؤلاء، العلمي أو الأيديولوجي، أن بعض معالم الانخراط لم تقتصر على مشاركة أهل النظر والتفكّر في المجال التداولي الإسلامي العربي للبحث في أسباب الفشل، وإنما امتد الأمر ـ بيت القصيد ـ إلى درجة تمرير خطاب الوصاية الغربية (في نسختها الأوروبية ابتداء، وفي طبعتها الأمريكية، خلال العقد الأخير على الخصوص)، إلى درجة أصبحنا نقرأ فيها دراسات "أكاديمية" تُسطّر معالم "الإسلام الذي يراد للعرب والمسلمين"، ونستحضر في هذا المقام أعمال دانيال بايبس الأمريكي أو إلكسندر دير فال الفرنسي.
وقد تكون أحدث هذه الدراسات، ما نطلع عليه في ثنايا تقرير صدر عن معهد هوفر Institution Hoover في آذار (مارس) الماضي، جاء تحت عنوان "تعزيز الديمقراطية من أجل وقف الإرهاب"، تحت إشراف الباحثين شادي حميد وستيفن بروك، ونشر في مجلة "بولسى ريفيو" Policy Review، ويمكن تلخيص زبدة التقرير في دعوة الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة الرئيس باراك أوباما إلى "ضرورة تغيير أسلوب التعامل مع المعضلة الديمقراطية ليس بالأقوال فحسب ـ كما كان يحدث من الرئيس والإدارة السابقة ـ والبعد عن الخُطب الرنانة دون تعزيزها بأفعال تسير في الاتجاه ذاته، على اعتبار أن الديمقراطية هي السبيل الوحيد للقضاء على الإرهاب والعنف السياسي الذي تعانيه منطقة الشرق الأوسط".
وواضح أن خلاصات التقرير/النموذج، كغيره من التقارير الأمريكية الصادرة عن أبرز مراكز الدراسات و"خزانات الأفكار" Think Tank في المجال التداولي الأمريكي، تبقى خاضعة لمقتضيات العقل السياسي البراغماتي الضيق، حيث يتم اختزال أزمة العرب والمسلمين اليوم، في المعضلة الإرهابية، التي تؤرق المصالح الاستراتيجية لصناع القرار في الولايات المتحدة، وبما أن صناع القرار في المنطقة العربية على الأقل، "عاجزون" عن تولي مهام التصدي للظاهرة الإرهابية، فإن مفاتيح المواجهة والحسم، تبقى بين أيدي المسؤولين في البيت الأبيض، وتغفل مثل هذه التقارير عن نقطة جوهرية ومؤرقة للغاية، أن السياسات الغربية (الأوروبية سابقا والأمريكية حاليا)، تَتحَمّل جزءا ليس هينا من بروز الظاهرة الإرهابية، وبالتالي، تسهم في إضافة مزيد من العوائق الموضوعية في مقتضيات النهضة والإصلاح، (كما تغفل أيضا أن إصرار العقل السياسي الغربي المعاصر على تكرار السياسات ذاتها التي ساهمت في تفريخ الظاهرة الإرهابية، لا يمكنه إلى أن يسهم في تغذية الظاهرة ذاتها وليس الإجهاز عليها، بما لا يخدم قطعا المشاريع الإصلاحية التي يقودها بعض القادة العرب والمسلمين).
وموازاة مع أقلام "العمالة الأكاديمية" في المجال التداولي الغربي، ازدادت الأمور سوءا وتعقيدا في الساحة العربية، مع بروز أقلام "العمالة الحضارية" ، بتعبير الراحل محمد عابد الجابري ـ وكان يقصد بها، لائحة من الأقلام ذات الأصول العربية والإسلامية، تقيم أغلبيتها في الرقعة الأوروبية وبدرجة أقل في الولايات المتحدة، ممن تبنّت أطروحات خطاب الوصاية على العقل الإسلامي المعاصر، وقد يكون أبرز شعار منهجي يُميز "مشروعها النهضوي"، رفع شعار "نزع القداسة عن النص القرآني"، والتعامل مع القرآن باعتباره ظاهرة لغوية وتاريخانية، لا يُقدم ولا يؤخر في مقتضيات النهضة العربية والإسلامية المرجوة تحديدا في أذهان وأعمال أقلام "العمالة الحضارية"!
وبدهي أن الحديث عن دور التطورات الدولية يحيلنا إلى العوائق الموضوعية (الخارجية) التي تعوق تحقيق حُلْم النهضة، على اعتبار أنه قبل الحديث عن نكسة 1976 وبعدها صدمة أيلول (سبتمبر) 2001، مرّت جميع دول الوطن العربي والعالم الإسلامي بحقب استعمارية واستيطانية ـ بل إن بضعها ما زال يقبع تحت نير الاستعمار والاستيطان، كما هو الحال في الحالة الفلسطينية ـ ووحدها هذه المعوقات الموضوعية، كانت كافية لأن يتأخر كثيرا تحقيق مقتضيات مشاريع النهضة العربية والإسلامية التي تمَّ تدشينها مع مشروع النهضة على يد محمد علي ابتداء من مطلع القرن الـ 19.
ولتبيان أهمية العوامل الخارجية في تفعيل أو عرقلة مشاريع الإصلاح والنهضة والتحديث، مُهِم جدا تأمل دور السوق الأوروبية ومن بعدها الاتحاد الأوروبي في تيسير عملية التحديث وإرساء الديمقراطية لدول جنوب أوروبا، حيث قامت دول شرق أوروبا منذ التسعينيات، موازاة مع دور الحماية الأمنية الأمريكية، في مساعدة وتيسير تحديث اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية.
وعلى النقيض من ذلك، واجهت دول العالم الثالث، خصوصا الواقعة في الشرق الأوسط الإسلامي، بيئة خارجية معادية وغير مواتية إلى حد كبير، ما يُخول للباحث محمد أيوب (أستاذ مرموق في العلاقات الدولية في جامعة ميتشجان الأمريكية)، لأن يستحضر السيناريو التالي الذي لا يمكن أن يروق بدوره للمدافعين عن خيار "الكيل بكيالين" في العلاقات الدولية؛ مُلاحظا أنه "يمكن تحرير نسخة أخرى مغايرة من تاريخ الشرق الأوسط تُرسَمُ فيها صورة مُغايرة للمنطقة دون الصراع العربي ـ الإسرائيلي والشتات الفلسطيني، حيث سيظهر نص مسرحي أكثر ديمقراطية وليبرالية، وستدخل مصر وسورية والعراق ولبنان ضمن عملية التجارب الوليدة في الحكم الديمقراطي"، كما جاء في مبحث قيّم له صدر في كتاب جماعي يحمل عنوان: "التحديث والديمقراطية والإسلام". (وصدر في مطلع 2010 عن دار "نهضة مصر" بالتعاون مع "مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية" CSIS، في واشنطن العاصمة)، وما "يُغذّي" هذا السيناريو الافتراضي، تأمل مسار التجربة النهضوية في ماليزيا، حيث تبيّن عمليا أن ابتعاد ماليزيا عن ساحة التنافس بين الشرق والغرب، وعدم سقوطها في صراعات إقليمية أو ثنائية ممتدة، ساهما بقوة في نجاح تحديث ماليزيا".
بالموازاة مع ثقل وجسامة الأسباب الخارجية التي أعاقت تحقيق مشاريع النهضة، كانت الساحة العربية على الخصوص، تعج بجملة من الأسباب الذاتية التي أسهمت بدورها بتأجيل تحقيق تلك الأحلام، والمثير أن مُجمل هذه الأسباب الذاتية، كانت للمفارقة، ترفع شعار "النهضة" و"الإصلاح" و"التحديث"، ونتحدث تحديدا عن حقبة ما بعد الاستقلال، التي كان يُؤَّسسُ لها على إيقاع شعارات نهضوية كبيرة، أغفلت التأثيرات السلبية الجسيمة لسياسات الأنظمة العربية حديثة الاستقلال.
وعلى فرض أن بعض صناع القرار في المنطقة العربية، يمتلكون رؤى إصلاحية نهضوية (كما هو سائد نسبيا اليوم في بعض دول الخليج العربي والمغرب العربي) تروم تطليق واقع الفشل النهصوي الجلّي، والمُميّز للرقعة العربية، فقد برزت مستجدات محلية عاصفة، أسهمت بشكل كبير في عرقلة تطبيقات ومقتضيات هذه الرؤى النخبوية الإصلاحية، ويمكن تلخيص أهم هذه المستجدات في الخطاب والممارسة الأيديولوجية لتيارين بارزين:
ـ هناك أولا التيار القومي، الذي يعيش على واقع "ديمومة الانتكاسة" منذ صفعة 1967، ويُحسب لهذه النكسة أنها تقف وراء مراجعة عديد من رموز هذا التيار أطروحاتهم النهضوية، لتتفرع على منحنين اثنين: منحى أفضى إلى اعتناق بعض القوميين المرجعية الإسلامية، ومنحى أفضى إلى مزيد من التشدد الأقرب إلى التطرف، بالصيغة التي تكشفها مثلا، الدعوة إلى استيراد النموذج الغربي في المنظومة العلمانية، وتجسدت علامتها القصوى في التطرف من خلال رفع شعار "نزع القداسة عن القرآن" سالف الذكر، ويؤسس مشروعه النهضوي على حتمية "تقديم تأويل جديد لموروثنا العقائدي، كما فعل فلاسفة التنوير الأوروبي مع تراثهم المسيحي. "وهذا ما لا نتجرأ عليه حتى الآن خوفا من عواقبه"، بتعبير الباحث هاشم صالح، مترجم أعمال أركون للقارئ العربي.
ـ وهناك ثانيا التيار الإسلامي الحركي، ويرفع في المقابل شعار "الإسلام هو الحل"، وشهد بدوره عدة تطورات، خاصة نحو الأسوأ في شقه الحركي المتطرف، عندما أصبحت العمليات التفجيرية الإرهابية شعارا لبعض الحركات الإسلامية "الجهادية"، وهي العمليات التي قدّمت خدمات أيديولوجية كبيرة للمفكرين الغربيين المروجين لخطاب الوصاية، وأيضا لأقلام "العمالة الحضارية"، لولا أن هذا التيار، الذي يُهيمن على الشارع العربي اليوم، بحكم إتقانه وتوظيفه الخطاب الشعبوي والاختزالي في آن، أصبح عند بعض الباحثين، أحد "مفاتيح" مقتضيات التحديث في المنطقة العربية على الأقل، تأسيسا على ما جاء في خلاصات دراسة صدرت في فاتح آذار (مارس) الماضي عن "مركز سابان لدراسات الشرق الأوسط" التابع لمعهد بروكينجز بعنوان "وهم استبعاد الإسلاميين المعتدلين في العالم العربي، وحرّرها الباحث المصري المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية خليل العناني، حيث انطلق من فرضية مثيرة، مفادها أن "استبعاد الأنظمة الحاكمة للتيار الإسلامي المعتدل يؤدي إلى إضعاف مرجعيات التحديث والاعتدال، ويفضي إلى مزيد من التطرف والعنف وظهور التيارات المتشددة .
وفيما يُعتَبر تزكية لقراءات عربية وإسلامية سابقة بخصوص "ضبابية" الشعارات التي ترفعها أغلبية الحركات الإسلامية، ثمة إجماع من لدن أهل النظر الرصين والتفكر النافع، أن التيار "النهضوي" الذي يرفع شعار "الإسلام هو الحل"، لا يُقدّم برنامجا مفصلا، ويبدو على الأرجح هذا الخطاب خياليا، وسمته الأساسية أن الإسلام هو الحل لجميع المشكلات الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية، بيد أنه لا يهتم بتفاصيل الحصول على السلطة أو إدارة الحكومات، وكم هي غنية تلك الدروس التي تهم أهل النهضة والإصلاح، عندما يتأملون الفروق الجوهرية بين إيران الإسلامية وأفغانستان الطالبانية وبين المجتمعات حول العالم الإسلامي، التي تؤكد أن الإسلام ليس "السؤال" وليس كذلك "الحل"، وفي المقابل، يُثير الإسلام بوصفه دينا وقاعدة ثقافية للحضارة العريضة لعديد من الأسئلة وعديد من الإجابات.
وإن جاز لنا اختصار أهم معالم طريق مقتضيات وأسئلة النهضة في الفترة الراهنة، فيمكن أن نتوقف عند نقاط ثلاث:
أهمية إقرار صناع القرار في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، قبل صدور أدبيات التنظير عن أهل النظر والتفكّر، بأننا نعيش حقا فشلا جليّا لمشاريع النهضة الحضارية، وتكمن أهمية هذا الإقرار في أنه يساعدنا جميعا على عدم إطالة فترة الفشل النهضوي، التي تمتد على الأقل منذ قرنين تقريبا.
أهمية إقرار أهل النظر والتفكّر قبل صناع القرار هذه المرة، بأن تفكيك أسئلة الفشل، والبحث عن مخارج تنظيرية وعملية ـ من المفترض أن يتكفّل بتفعيلها صناع القرار ـ يتطلب اجتهادا جماعيا، بما يساعدنا من جهة على تجاوز أعطاب المشاريع الأيديولوجية (القومية الحداثية، والإسلامية الحركية)، وبما يشجع من جهة ثانية، على التصدي لهيمنة تيار أيديولوجي مُعين على التنظير لمعالم مشروع النهضة المُعلّق.
أهمية إقرار صناع القرار وأهل النظر والتفكّر في المجال التداولي الغربي، بأن مساعدة العقل الإسلامي المعاصر على ولوج عوالم النهضة المرجوة (ونحن نفترض جدلا أنهم صادقون في هذا المسعى!)، يتطلّب تغيير عديد من السياسات المتبعة حاليا في الغرب بخصوص التعامل مع الواقع العربي والإسلامي، سواء تعلق الأمر بأداء الساسة الغربيين أو أدبيات بعض المؤسسات الجامعية ومراكز الدراسات التي تتعامل بعقلية الوصاية والاستعلاء مع الشأنين العربي والإسلامي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي