المجد للفرد
سمعت في مرة من المرات أحد مشايخنا الأفاضل يتحدث في إحدى حلقات أحد البرامج على إحدى الفضائيات الخليجية يعقد مقارنة بين المجتمع الغربي والمجتمع العربي فيما يتعلق بمفهوم القيادة. وكان مجمل ما قال، زاده الله علما، إن المجتمع الغربي بطبعه مجبول على الممارسة الجماعية والمؤسسية، وبالتالي فهو يجعل حكم المجموعة ورأيها فوق رأي الفرد. بينما المجتمع العربي بطبعه كذلك مجبول على الانقياد وراء الفرد القائد، وهو في الغالب ينتظر ذلك القائد أو المصلح الفذ كي يجره إلى الصلاح، ويقوده إلى النجاح والتفوق. ورغم قسوة هذا التصنيف، إلا أنني وجدت نفسي أتفق معه في المجمل، وأسقطه على واقع مجتمعنا العربي بشكل عام، خاصة فيما يتعلق بقطاع الأعمال والإدارة المحلية. ووجدت بالنتيجة أننا نعيش واقعا مريرا من الممارسة الفردية في كل مجالات الحياة، والغياب شبه التام للعمل المؤسسي والفكر الجماعي وقد يتسع صدر القارئ الكريم لهذه المصارحة الهادفة، علنا نتمكن من إطلاق مبادرة جادة لتغيير ثقافة العمل الفردي، وتنمية فكر العمل المؤسسي والجماعي في مناحي الحياة كافة.
أول الإسقاطات تناول قطاع الأعمال في بلادنا، فكم من كيانات القطاع الخاص العاملة في البلاد مملوكة لأفراد يمارسون فيها كل أشكال الخلط بين الإدارة والملكية، ويخضعونها لكل أشكال العشوائية الإدارية وسوء التخطيط وغياب العمل المنهجي المنظم؟ وكم من الشركات التي يفترض أنها تعبر عن شكل من أشكال تعدد الملكية تخضع للنمط ذاته من الإدارة الفردية، والتخبط والعشوائية ذاتهما، سواء صغرت الشركة أم كبرت، مساهمة كانت أم محدودة المسؤولية؟ وكم من الإنجازات التي يتم تجييرها ورصدها في سجلات النجاح للأفراد عوضا عن الكيانات؟ وكم من المرات التي استأثر فيها المدير أو المالك بالرأي والقرار دون إشراك الآخرين في الكيان الذي يديره؟ وكم من التصريحات الصحافية التي أبرزت مدير الشركة أو رئيس مجلس إدارتها دون أي ذكر لكل من فيها من عاملين؟ أطرف الأمثلة رأيته في إحدى كبريات الشركات التي صنفت على أنها إحدى أكبر 100 شركة في المملكة، ووجدت أن رئيس مجلس إدارتها يقوم بالإشراف المباشر على مصروفات الشركة وتوقيع جميع الشيكات والفصل والتوظيف حتى على مستوى عمال النظافة والخدمات. المشكلة في تقييمي هي في فقدان التأهيل والقدرة على الاعتراف بالقصور، ولم لا، وهو من نسميه دائما «صاحب الحلال».
وفي القطاع الحكومي غالبا ما تتركز الصلاحيات في كبار مسؤولي الجهة وهم محور الاهتمام والمسؤوليات والتصريحات والأضواء والتخطيط والتنفيذ والتشريع والمراقبة والمحاسبة والعفو والاستثناء وغير ذلك من الممارسات التي يرسخها مناخ الممارسة الفردية. وفي المحصلة، فإن سياسة الوزارة تتغير تغيرا جذريا عند تغيير الوزير. كما أن سياسة هذه الوزارة وتلك الوزارة تتصادمان تصادما يسقط على أثره كثير من الضحايا ممن تتقاطع مصالحهم مع كلتا الوزارتين، فسياسة وزارة العمل على سبيل المثال، على الرغم من بنائها على مجموعة من الأهداف والرؤى التي لا يمكن وصفها إلا بأنها وطنية صرفة، إلا أنها أنتجت آليات تعارضت مع مجمل أهداف بعض الهيئات الحكومية الأخرى وخططها، وأصبحت كمن يسبح ضد التيار. ووزارة المالية تتكئ على آليات تتطلب المراجعة والتحديث كي تواكب التحولات حسب ظروف المرحلة لا أن يجري تطبيقها كما هي سواء كنا في عهد الطفرة أو شد الحزام, وزارة الخدمة المدنية تنظر بعين السواسية إلى المواطنين كافة، وهي بالتالي تمنحهم الوظائف الجاهزة في قطاعات الدولة، وتجعلهم في حماية تامة من رب العمل مهما قصروا في أداء أعمالهم، ومهما تدنت إنتاجيتهم، ثم يأتي من يلوم قطاعات الدولة على تدني الإنتاجية على الرغم من القصور الواضح في تأهيل الموظفين. إن المشكلة الكبرى هي في غياب أسس العمل المركزي بشكل عام، وغياب دور فاعل للتخطيط المركزي بشكل يدعو إلى التساؤل حول دور وزارة للتخطيط، خاصة أن اعتمادات الميزانيات السنوية لا تنسجم مع توجهات خطط التنمية. ورغم ذلك، إلا أنني أجد لوزارة التخطيط العذر والتبرير لهذا القصور، حيث إن موقعها المساوي لبقية الوزارات لا يمنحها السلطة الكافية لأداء دور قيادي في عملية التخطيط الشامل. وعلى غرار ذلك، فإن تنفيذ الالتزامات المترتبة على انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية يصطدم بتعثر آليات التطبيق داخل إطار الدولة، في ظل تدني سلطة الجهة المشرفة على هذا التطبيق، الممثلة في وكالة لوزارة التجارة والصناعة، مقارنة ببقية سلطات الوزارات الأخرى.
إن المملكة تعيش في هذه الفترة فرصة ذهبية بحق في ظل الطفرة المالية التي تعيشها، ورعاية ملك صالح همه الأكبر رخاء الشعب وازدهار الدولة. فرصة ذهبية لتأسيس نموذج للعمل المؤسسي الممنهج الذي يوظف آليات التخطيط بشكل فاعل، ويرسم أدوار قطاعات الدولة بفرعيها العام والخاص بتكامل دون تعارض، وبانسجام دون اختلاف، وبشكل يرسم حدودا واضحة المعالم للسلطات التشريعية والتنفيذية والرقابية، فلا نعود نشهد ما نعيشه من تضارب نتيجة قيام الأفراد التنفيذيين بسن القوانين والتشريعات دون تنسيق مع بقية قطاعات الدولة. أقصى ما أتمناه أن أرى قيام هيئة عليا للتخطيط المركزي ترتبط بأعلى سلطات الدولة، في إعادة لهيئة سبقت وجود وزارة التخطيط في عهد مضى، وهي الهيئة المركزية للتخطيط التي ظلت تقوم بدور التخطيط المركزي حتى عام 1395هـ عندما تحولت إلى وزارة للتخطيط. وأجزم أن من شأن هذه الهيئة أن تقوم بالدور المفقود في التخطيط والتنسيق والإشراف على قطاعات الدولة، ورسم خطط التنمية الاستراتيجية للسنين المقبلة، كي نحقق توظيفا أمثل للموارد، ونعيش واقعا نستحقه في هذا البلد المعطاء.