(الهريش مدرسة في حسن الخلق)
لم أكن أتصور أني أكتب هذه السطور عن الفقيد الشيخ عبد الله بن عمر الهريش، الذي لم يكن واعظا أو فقيها أو قاضياً فحسب، بل كان رجلاً قضى تلك الدنيا الفانية لا يفكر إلا في غيره، فو الله لم أكن أتصور أصدقاءه القريبين إلا من عائلته، فهو يهتم بهم فكان الأخ للكبير والأب للصغير، حتى أن أغلبيتهم بعد وفاته يقولون كيف ننسى أبو سامي وهو معنا في كل شيء، فالسنة بأيامها وشهورها كلها تحت برنامجه وبصحبته.
الشيء الفريد جداً في مجلسه أن استقباله للضيوف يختلف تماماً عن غيره من المجالس، فتجد التهليل والترحيب والابتسامة نفسها تقدم لجميع ضيوفه لا فرق بين غني وفقير، وعلى الرغم من أنه يفضل الجلوس في الأرض ويشكو من آلام الركب ولديه ضعف في عضلة القلب، فهو لا يتردد أبداً في الوقوف والمشي إلى أول المجلس لاستقبال ضيوفه (تاجرهم وفقيرهم، مسؤولهم أو متقاعدهم!!). والأمر الآخر في مجلسه - رحمه الله - أنه يرفض إطلاقاً أن يبدأه الضيف بالسلام على من هو في أيمن المجلس، وهذا يدل على حسن الخلق واحترام الضيوف، وعندما يشرع الزائر في الخروج يطلب منه أن يتناول وجبة العشاء، فإن اعتذر فلا يشدد عليه تقديراً لظروفه، ولكنه يأخذ بيد ضيفه (مهما كانت مكانته الاجتماعية) إلى باب المجلس أو إلى الباب الرئيسي.
أما مساعدته للفقراء والمحتاجين فهي بحق مما لا تدري شماله ماذا أنفقت يمينه، ففقيدنا لا يحتاج إلى التذكير بوجود عائلة محتاجة أو نحوها، فهو دائماً السباق في مساعدة الفقراء فكان من الذين يبحث عنهم، وفي غالب الأحيان يساعدهم دون علمهم، والسبب في ذلك أنه لا يحب أن يَشعر المحتاج بالذل والانكسار، بل إنه يرى أن هذا هو حق الله عليه وإن إعطاءه واجب، فلا شكر أو مديح على واجب.
ومن الخصال الحميدة التي يتميز بها أبو سامي حسن الخلق والهدوء، فهو يعد مدرسة الذوق وحسن التعامل، فو الله لم أجده يوماً تفوه بكلمة على إنسان، فكلامه موزون، أما مزحه فهو ذوق، وكثيراً ما يستعين - رحمه الله - بالشعر النبطي لذكر بعض الطرائف والقصص. وإن هاتفك فهو يبدأ بكلمته المشهورة عساك منت مشغول، ويكثر من كلمة العفو وإذا مدحته فهو دائماً يقول أستغفر الله أنا ما أستحق ذلك أبدا لكن هذا طيب منك. والدليل على حسن خلقه - رحمه الله -: فهو وإن كان من منطقة مشهورة بالكرم ومن قبيلة ذكرها الصادق المصدوق بأحسن الخصال، لكنه يرفض تماماً أن يجيب أي متسائل من أنت أو ما قبيلتك، لأنه لا يحب أن يُمدح أو يثنى عليه أو يُحرج أحد في المجلس، هذا والله درس من رجل فارق الدنيا للكثير من الذين يضعون منطقتهم وقبيلتهم وأصولهم فوق غيرهم ومن جعل المزايدة ( المهايط) بضاعته.
وخصال فقيدنا لا يمكن حصرها ولكن يمكن أن نجمعها في خصلة واحدة ألا وهي حسن الخلق، تلك الشهادة التي ذكرها الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنها من أكبر مثقلات الموازين فقد قال: ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق وأن الله يبغض الفاحش البذيء، وكذلك جعلها في منزلة الصائم والقائم فقد قال: إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم والقائم، والأهم من ذلك مجاورة الرسول يوم القيامة بقوله أيضاً (إن من أحبكم إلي وأقربكم مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقا)، نسال الله الذي جمعنا معه في الدنيا أن يجمعنا وإياه في حوض نبيه، إنه سميع مجيب.