«عفواً لسنا كلنا ندخن .. ولكن كلنا نتنفس»
قرار مجلس الوزراء الأسبوع الماضي بمنع التدخين في المطارات يعزز ويؤكد قرارات سابقة تحظر التدخين في الأجهزة الحكومية. إلا أنه - مع الأسف الشديد - يتم تجاهلها حتى من المسؤولين داخل هذه الأجهزة. فإذا كان من أنيط بهم مهمة تطبيق النظام لا يلتزمون به وتراهم لا يلقون بالا ينفثون دخانهم في كل مكان بكل جرأة ووقاحة دون احترام للنظام العام ولا مشاعر الآخرين! فمن باب أولى ألا يلتزم العموم بالنظام، وبالتالي لا يكون احترام القانون وتطبيقه جزءا من ثقافتهم. الإشكالية عندما يتولد مفهوم خاطئ وسوء فهم للمقصد من صياغة الأنظمة العامة ويغيب الهدف الأساس وهو تحقيق المصلحة العامة. وهذا يفسر أنه على الرغم من إصدار كثير من الأنظمة الحكومية التي جاءت لتحفظ الحقوق العامة لا يتم التقيد بها ولا تحقق أهدافها، ولربما لم يعلم بها أحد! في ظل غياب ثقافة احترام حقوق الغير، يقوم كثيرون بالتدخين في الأماكن العامة مجبرين الأكثرية من غير المدخنين على تنفس الهواء الملوث ومضايقتهم برائحة نتنة تأنف منها الأنوف لتلتصق بملابسهم، والأهم أنهم يتسببون في معاناة صحية لأولئك الذين يعانون من حساسية في الصدر، فضلا عن أنه مظهر غير حضاري لا يليق بمجتمع إسلامي محافظ تنتشر فيه الفضيلة وتستنكر فيه الرذيلة. إن التدخين في الأماكن العامة يعكس مستوى من اللامبالاة والاستهتار بحقوق الآخرين يصل حد التهكم. الحقيقة العلمية أن التدخين السلبي أي استنشاق الدخان الذي ينفثه المدخنون من قبل غير المدخنين يسبب أمراضا خطيرة، أي أن المدخنين في الأماكن العامة يرتكبون جرما في حق غير المدخنين تماما كمن يتعدى أحدهم على ممتلكات الغير أو أشخاصهم، حتى وإن لم تكن بهذا الوضوح فهي ربما أكثر سلبية. التدخين في الأماكن العامة قد يبرره البعض من باب الحرية الشخصية وأنه له كامل الحق في أن يستهلك ما يشاء وقتما يشاء! وأن على الآخرين الابتعاد عنه إلى مكان آخر، ولكن هيهات لهم أن يجدوا مهربا من هذا الدخان الذي يملأ المكان المغلق. هؤلاء يبررون تدخينهم بأنهم مستهلكون اشتروا سجائرهم بحر مالهم وبناء على رغبتهم وأنهم يعلمون ضرر التدخين الاقتصادي والصحي عليهم ولكن هذا شأنهم وحدهم! قد يكون كلامهم صحيحا لو أنهم دخنوا منفردين في مكان خاص ولكن التدخين في الأماكن العامة له تأثيراته السيئة في الآخرين، ومن الظلم أن يسمح للمدخنين التقرير لأنفسهم في الشراء والاستهلاك وتحمل تبعات ذلك، بينما يحرم غيرهم حق الاختيار! أمر مهم يجب التنبه إليه في هذا السياق وهو أن السعر الذي يدفعه المدخن هو تكلفة خاصة يلزم أن يضاف إليها التكلفة الاجتماعية، هذه الإضافة ستزيد من سعره وبالتالي تقلل من استهلاكه، كما أن الزيادة في السعر تسهم في تغطية بعض التكاليف التي يسببها المدخنون على المجتمع.
في البلاد المتقدمة بل حتى النامية مثل سنغافورة يمنع منعا باتا حتى في الشوارع العامة، بل أعلم أن سكان الشقق المستأجرة في بعض الولايات الأمريكية يغرمون الساكنين إذا أقدموا على التدخين داخل الشقة ويفرضون عليهم التدخين خارجها. التدخين عادة سيئة بل غير صحية ويقع فيها ظلم كبير على الأكثرية غير المدخنة. وكيف لنا أن نوقف هذه العادة السيئة ونعلم النشء أنها أمر مستنكر اجتماعيا، والباب مفتوح على مصراعيه للمدخن ليدخن في أي وقت شاء وفي أي مكان. إن الأنظمة تأتي لحفظ الحقوق العامة وتحافظ على مصلحة الأفراد من تعدي بعضهم على بعض، ومتى ما فشلت الأنظمة في تحقيق ذلك يكون السبب إما قصورا في التنظيم وإما في تطبيقه. إن عدم تطبيق التنظيمات العامة له مردود سيئ على مستوى الوعي الاجتماعي واحترام القانون في كل مناحي الحياة، إذ إن الرسالة التي يبعثها هي أن التنظيمات وضعت من أجل ألا تطبق!
وعلى أن قرار مجلس الوزراء بمنع التدخين في المطارات أمر يستحق الإشادة إلا أنه يخشى أن يفهم منه أن فيما عداه من أماكن عامة مسموح فيها خاصة تلك المغلقة مثل مراكز التسوق والمطاعم والمكاتب وغيرها. وهذا أمر جد خطير إذ إنه يسوغ إن لم يشجع المدخنين على التمادي في عادتهم السيئة. الإشكالية أن هناك أطفالا في هذه الأماكن التي تعج بالمدخنين وهم لا يستطيعون أن يفصحوا عن اعتراضهم وشرح معاناتهم. ومن الغريب أن تجد في المطاعم التي ترتادها العائلات قسم صغير لغير المدخنين بالنسبة لقسم المدخنين الذي يحتل الحيز الأكبر والقسمان مفتوحان على بعضهما فلا يكاد يكون هناك مهرب من وصول الدخان إلى جميع أرجاء المطعم. إن منع التدخين في الأسواق المركزية والمطاعم وغيرها من الأماكن العامة يجب أن يكون بقوة القانون وليس مسألة اختيارية لصاحب المنشأة، فالأصل في الاحتكام أن الأقلية تلتزم برأي الأكثرية وليس العكس، خاصة إذا كان هناك ضرر يقع على الأكثرية من سلوكيات الأقلية.
أما الحديث عن الخسائر الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة لاستهلاك التبغ والذي يستنزف الكثير ويؤثر في الاقتصاد الوطني فأمر عظيم يستدعي التنبه إليه. فاستيراد التبغ يكلف الاقتصاد المحلي 16.4 مليار ريال سنوياً حسب تقرير أوردته جريدة «الرياض» في عددها الصادر 3 حزيران (يونيو) 2010، ففقد بلغ عدد المدخنين في السعودية تسعة ملايين مدخن، ويتسبب التدخين في وفاة 21 ألف حالة سنويا، ويكلف وزارة الصحة تسعة مليارات ريال سنويا. أضرار التدخين لا تقف عند هذا الحد بل تتسبب في حرائق وخسائر كبيرة في الممتلكات والأرواح. ومع كل هذه المصائب التي يجلبها التدخين على المستوى الفردي وعلى مستوى المجتمع إلا أنه في انتشار دون ضبط ورقابة صارمة وتضييق على المدخنين. الأدهى والأمر أن عادة التدخين سرت بين الفتيات وهو أمر يثير الدهشة والاستغراب في مجتمع محافظ جدا وهو دليل على التأثر بالثقافات الأخرى وكأنه عنوان للتحرر والتمدن والسلوك العصري!
هناك حملة نظمتها مملكة البحرين في الأسواق المركزية وجميع الأماكن العامة بوضع لوحات تقول: عفواً لسنا كلنا ندخن .. ولكن كلنا نتنفس، ومنع التدخين منعا باتا وصارما في هذه الأماكن لا هوادة فيه ولا تراخ ولا ثقافة «تصالحوا» في تطبيق القانون العام، حتى اختفت ظاهرة التدخين. حظر التدخين في الطائرات جاء من الدول الغربية وأقرته المنظمة العالمية للطيران إياتا وأصبحنا ملتزمين بها حتى على الرحلات الطويلة عبر القارات والمحيطات دون أي مخالفة! قرار منع التدخين في المطارات من قبل السلطة المركزية يلزم أن يتبعه قرارات مشابهة على مستوى المناطق والبلديات. فهل تقوم مجالس المناطق ومجالس البلديات والمجالس المحلية بإصدار أنظمة منع التدخين في الأماكن العامة على غرار ما قام به مجلس الوزراء؟ وتطبقها بجدية وصرامة؟!