همة فاعل خير .. فهل من متعظ؟!
قال لي أحد الأصدقاء: عجبت لزوجتي وهي تحمل أعدادا كثيرة من علب الماء البارد عند ذهابها مع السائق لإحضار الأبناء والبنات من الاختبارات هذه الأيام فسألتها عن سبب ذلك، فقالت لي فرحة: الجو شديد الحرارة والعمال يعانون العطش وهم يعملون تحت لهيب الشمس فكلما رأيت مجموعة من العمال أعطيت السائق ما يطفئ ظمأهم ليعطيهم لعل الله يدخلني الجنة بهذا العمل فلقد سقت امرأة من بني إسرائيل كلبا فغفر الله لها، كما أخبرنا بذلك المصطفى - صلى الله عليه وسلم.
ما قاله صديقي هذا ذكرني بقصة قرأتها في الإنترنت عن فاعل خير ميسور من كبار السن عالي الهمة تكفل برعاية 150 بيتا من فقراء مدينته وهي مدينة متوسطة الحجم بما يتناسب وقدراته الاقتصادية كتاجر متوسط الحال حيث كان يمشي مئات الأمتار, ويصعد عديدا من الطوابق بهمة الشباب يدور مدينته من أقصاها لأقصاها مع الحرص الشديد ألا يعلم الفقراء من هو لأنه أرادها «لوجه الله»، ورغم توفيقه في إنقاذ ما لا يقل عن 750 نفسا من براثن الفقر فهو يشعر بأنه لم يحقق حلمه المتمثل في مساعدة فقراء المدينة كلهم دون استثناء ويا له من حلم ويا لها من همة.
ويقول ناقل قصة هذا المحسن إنه بسيط المظهر، مقتصد في سيارته، حافظ عناوين الفقراء عن ظهر قلب، يتحرز من الكاميرا خوفا من أن يدخل نفسه الرياء من حيث لا يعلم، يسعى لدفع جراد الذل عن بيادر كرامة الفقراء وإنه يتحسر على أثرياء المسلمين الذين ركنوا للحياة الدنيا متناسين إخوانهم الفقراء رغم أن المال لله الوهاب وأنه ليس للإنسان إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما سوى ذلك فهو ذاهب، وتاركه للناس، كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم.
وأقول يا لهمة هذا المحسن الذي سد حاجة 150 أسرة وهو غير راض ويريد سد حاجة كل فقراء المدينة وبكل تأكيد في بلادنا كثير ممن هم على شاكلته وهم قدوات أيضا في الهمة في فعل الخير في مجالاته كافة، وبكل تأكيد أيضا أنه في بلادنا كثير ممن هم على شاكلة قارون يجمعون المال ويكنزونه لزيادته كغاية بالطرق المشروعة وغير المشروعة كافة حتى ترى أحدهم في حالة يرثى لها وهو يخطط لزيادة ماله وإن كان على حساب مجتمعه ووطنه وآخرته التي نسيها ظانا أنه مخلد في الدنيا.
ويذكرني حال هؤلاء الذين رضوا بالحياة الدنيا بما جاء في حكم وقصص الصين القديمة من أن ملكا أراد أن يكافئ أحد مواطنيه فقال له: امتلك من الأرض كل المساحات التي تستطيع أن تقطعها سيرا على قدميك حيث فرح الرجل وشرع يذرع الأرض مسرعا ومهرولا في جنون فسار مسافة طويلة فتعب وفكر أن يعود للملك ليمنحه المسافة التي قطعها لكنه غير رأيه وقرر مواصلة السير ليحصل على مزيد فسار مسافات أطول وأطول وفكر في أن يعود للملك مكتفيا بما وصل إليه لكنه تردد مرة أخرى وقرر مواصلة السير ليحصل على مزيد ومزيد وظل الرجل يسير ويسير ولم يعد قط فقد ضل طريقه وضاع في الحياة ووقع صريعا من جراء الإنهاك الشديد فلم يمتلك شيئا ولم يشعر بالاكتفاء والسعادة لأنه لم يعرف حد الكــفاية أو (القناعة).
ما أريد أن أقوله للميسورين في بلادي وكل من لديه مال يستطيع أن يساهم به في رفع معاناة فقير أو يتيم أو أرملة أو مريض إن منظومة المعارف والقيم والمبادئ والمفاهيم الراسخة في عقولنا هي ما تشكل مواقفنا وتحكم سلوكنا فكل من يعرف ويؤمن بقول الله تعالى «مَنْ ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (البقرة: 2/245)، وكل من يعرف ويؤمن بقول الرسول (ما نقص مال من صدقة بل تزده بل تزده) ومن يتمثل قيم الكرم والمروءة والرحمة والعطاء ومفاهيمها السليمة سيبذل ويعطي ولا يتردد في ذلك عن طيب خاطر ورضا نفس وسعادة غامرة، وبالتالي علينا أن نراجع منظومة المعارف والقيم والمبادئ والمفاهيم الراسخة في عقولنا.
فمؤلم جدا أن نسمع في بلاد الحرمين، بلاد الشريعة الإسلامية ونحن نتغنى بقيم الإسلام وتعاليمه الإنسانية عن محتاجين للمساعدة لا يجدون ما يسد رمقهم وجمعيات خيرية تعجز عن رفع المعاناة عنهم لضيق ذات اليد، ومؤلم جدا أن نرى أن البذل والعطاء أصبح مقرونا بالعوائد الدنيوية من سمعة لدى العامة ومكانة لدى الخاصة ومكاسب تسويقية، وأعتقد أنه حان الوقت لنرى مبادرات من الميسورين لدعم الجمعيات الخيرية الآمنة والفاعلة لتعزيز قدراتها للقيام بمهامها الخيرية المعلنة على أكمل وجه، خصوصا أن معظمها، كما أوضحت في المقالة السابقة، تعاني اليوم ندرة الموارد المالية لندرة المتبرعين والمانحين رغم أن بلادنا تغص بالمليارديرية فضلا عن المليونيرية وأصحاب الدخول المرتفعة والمتوسطة.
ختاما أقول: أسال الله أن يكون أثرياء بلادي قدوات في دعم العمل الخيري بدوافع داخلية لا ترضى بأقل من العمل الخيري المكتمل الذي يتناسب مع علاقتهم بالخالق جل وعلا ولا يكونوا بعقلية السناجب التي تقضي عمرها في قطف وتخزين ثمار البندق بكميات أكبر بكثير من قدر حاجتها حتى يمضي العمر دون فائدة، وكلي ثقة بأبناء بلادي بأنهم يستطيعون أن يستمتعوا بأوقاتهم وأموالهم في كل مراحل حياتهم وعلى قدر دخولهم بالإنفاق على حاجاتهم وأسرهم والمعوزين من حولهم دون الحاجة للوصول لأرقام فلكية لكي تبدأ مسيرة الاستمتاع التي قد تكون مضت لأسباب كلنا يعلمها.