خواطر قانونية حول الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة
إسرائيل مصرة على منع إجراء أي تحقيق دولي حول عدوانها المسلح على أسطول الحرية الذي كان محملاً بمواد إغاثة ومساعدات إنسانية لسكان غزة. وفي سبيل تهدئة الرأي العام العالمي الغاضب من تصرفها، قررت الحكومة الإسرائيلية تكوين لجنة إسرائيلية لتقصي الحقائق تضم مراقبين أجنبيين، ورفض وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو هذه اللجنة, وقال إن بلاده لا تثق بأن هذه اللجنة ستؤدي إلى تحقيق محايد, كما رفضها محمود عباس (أبو مازن) رئيس السلطة الفلسطينية قائلاً: إن هذه اللجنة لا تلبي مطالب مجلس الأمن الدولي، بينما أكدت حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) أن قرار الحكومة الإسرائيلية بتكوين هذه اللجنة هو تهرب مباشر وواضح من الضغط الدولي الذي يطالب بتشكيل لجنة دولية. الأمر اللافت للانتباه هو تصريح بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي المتضمن أن اللجنة ستفحص إذا كانت الإجراءات الإسرائيلية لمنع وصول أسطول الحرية إلى شواطئ قطاع غزة ملائمة للقانون الدولي, وذلك في ثلاثة محاور هي:
1 ـ فحص الظروف الأمنية لفرض الحصار البحري على قطاع غزة.
2 ـ مدى الشرعية الدولية للإجراءات الإسرائيلية لتطبيق الحصار خلال السيطرة على سفن أسطول الحرية.
3 ـ تصرفات النشطاء الذين كانوا على متن سفينة (مدمرة).
والواقع أن هذا التصريح يدل دلالة واضحة على أن شرعية الحصار الإسرائيلي الشامل على قطاع غزة أصبحت محل شك في إسرائيل، خصوصاً بعدما طالبت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بتخفيف هذا الحصار وإيجاد بدائل أخرى لمراقبة حدود غزة بهدف منع توريد السلاح والمعدات العسكرية إلى قطاع غزة. والحقيقة الدامغة أن إسرائيل تكابر لأن قادتها ومستشاريها يعلمون جيداً أن الحصار الإسرائيلي غير مشروع في ضوء مبادئ وقواعد القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني. وسبق أن أشرت في مقالات سابقة إلى أن ريتشارد فولك، خبير الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان، وصف هذا الحصار بأنه جريمة ضد الإنسانية. وهذا وصف صحيح, لأن هذا الحصار سلب الشعب الفلسطيني في غزة عديداً من حقوق الإنسان الأساسية مثل: الحق في الغذاء والحق في الصحة والحق في التنمية والحق في بيئة سليمة تفي بمتطلبات صحة الإنسان ورفاهيته والحق في التعليم والحق في الانتقال والسفر, بل أدى استمرار هذا الحصار إلى الاعتداء على الحق في الحياة. ومن ناحية أخرى فإن الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة يعد عملا من أعمال العدوان طبقا لتعريف العدوان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها المتخذ بتاريخ 14/12/1974. بعبارة أخرى يشكل الحصار الإسرائيلي جريمة عدوان ضد الشعب الفلسطيني، والمعروف أن جريمة العدوان تدخل ضمن الجرائم الدولية الكبرى التي تختص المحكمة الجنائية الدولية بالنظر فيها ومحاكمة المسؤولين عنها ومعاقبتهم بالعقوبات المناسبة. لكن إسرائيل أصبحت دولة فوق القانون بفضل الحماية الأمريكية, وليس من سبيل حتى الآن إلى مقاضاة إسرائيل ومحاكمة قادتها عن الجرائم الخطيرة التي ارتكبوها في حق شعب فلسطين والشعوب العربية المجاورة. وهنا يجب أن نتذكر أن محكمة نورمبرج التي أقامها الحلفاء بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لمحاكمة قادة ألمانيا النازية، أكدت أن القواعد التي جاءت بها الاتفاقات الدولية بخصوص حماية أرواح وأموال سكان الأقاليم المحتلة وعدم جواز توقيع عقوبات عامة عليهم, هي قواعد كاشفة عن أحكام عرفية أكدتها الدول المتمدينة. وهنا يحق لنا أن نتساءل: ما بال المجتمع الدولي المعتمد يتغافل عن مبادئ نورمبرج ويسكت عن السياسة العدوانية الإسرائيلية وإنزالها بحصار غزة عقوبات عامة جماعية ضد أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني؟!
إسرائيل تهدف بهذا الحصار إلى معاقبة الشعب الفلسطيني معاقبة جماعية لأنه انتخب حركة حماس التي ترفض الاعتراف بإسرائيل وتصر على استرداد الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة وعودة اللاجئين إلى ديارهم. لقد أكدت نافي بيلاي مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان أن الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة غير قانوني ويجب رفعه, وقالت إن القانون الدولي الإنساني يحظر تجويع المدنيين كوسيلة حرب كما يحظر فرض عقوبة جماعية على المدنيين. وأضافت أنه حتى إذا كان الحصار قانونياً فإن العملية العسكرية الإسرائيلية ضد قافلة سفن مساعدات غزة يجب تحليلها من منظور التزام إسرائيل بالسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى غزة. بعض المتفيهقين من الكتاب والصحافيين العرب يلومون حماس على مواقفها الرافضة للاعتراف بإسرائيل وينسون أن عديداً من قادة إسرائيل أمثال بنيامين نتيناهو وأمينغدور ليبرمان لا يعترفون بالحق الفلسطيني ويؤمنون بأن فلسطين كلها من النهر إلى البحر أرض إسرائيلية محررة, ولذلك يعطون لأنفسهم الحق في مصادرة الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات اليهودية عليها.
هؤلاء المتفيهقون يعتبرون حماس السبب في عدم رفع الحصار عن قطاع غزة لأنها رفضت تسليم إسرائيل الجندي الإسرائيلي الأسير لديها شاليط وينسون أن أكثر من عشرة آلاف فلسطيني أسير يقبعون في السجون الإسرائيلية، منهم نساء وأطفال.
هؤلاء المتفيهقون يلومون حماس لأنها لم توافق على الشرط الإسرائيلي لفتح المعابر بأن توضع تحت إشراف السلطة الفلسطينية, وينسون أن هذا الشرط شرط تعجيزي وغير واقعي في ظل حالة الانقسام الفلسطيني (المؤلم والمخجل) وسيطرة حركة حماس على قطاع غزة منذ منتصف حزيران (يونيو) 2007 التي تعتبر نفسها المخولة الوحيدة بإدارة هذه المعابر بوصفها سلطة منتخبة من قبل الشعب الفلسطيني. ثم إن إسرائيل لم تكن جادة في هذا الشأن لأنها رفضت خيارا بديلاً هو استقدام قوة دولية لتأمين المعابر على الحدود بين قطاع غزة ومصر وزيادة عدد حرس الحدود المصري لضمان مراقبة أشد للحدود.
من ناحية أخرى, ألا يعلم هؤلاء المتفيهقون أنه لو رضخت حماس لجميع المطالب والشروط الإسرائيلية لرفع الحصار فإن ذلك سيضع سابقة تستند إليها إسرائيل في المستقبل في فرض الحصار على الشعب الفلسطيني كلما انتخب حكومة لا ترضى عنها إسرائيل.
ثم إنني أتساءل: هل قدم المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضمانات لحماس بأنها إذا استجابت للمطالب الإسرائيلية بشأن فتح المعابر لن تعود إسرائيل مرة أخرى إلى إغلاقها ومحاصرة الشعب الفلسطيني؟!
إن مؤدى منطق المتفيهقين العرب في تحميل حماس مسؤولية استمرار الحصار يعني إعفاء إسرائيل من المسؤولية عن جريمة فرض هذا الحصار الجائر، بينما الشرفاء في العالم يطالبون بمحاسبة إسرائيل، وأسوق على ذلك مثالاً بموقف النائب الأمريكي الديموقراطي دنيس كوسينيتشى الذي بعث برسالة إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما طالبه فيها بألا يسمح بمرور الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية من دون محاسبة إسرائيل وأن على الولايات المتحدة أن تتولى هذا الأمر وأن تكون هذه المحاسبة دبلوماسية ومالية، كما أكد النائب المذكور في رسالته أن «انتهاك إسرائيل القوانين الدولية وقتلها مدنيين وارتكاب اعتداء على حليف آخر للولايات المتحدة (ويقصد بذلك تركيا), هي أمور غير مقبولة. بل إن مايك هامر، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي اعتبر حصار إسرائيل لغزة أمرا لا يمكن تحمله). كما أن وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون اعتبرت الوضع في قطاع غزة ليس مقبولاً ولا يمكن أن يستمر.
أخيرا يجب أن نتذكر أن لب القضية لا يكمن في الحصار, إنما في الاحتلال الإسرائيلي البغيض, الذي يعتبر طبقا لقواعد القانون الدولي, جريمة دولية ضد السلام.