السياسة الخارجية السعودية في عهد خادم الحرمين الشريفين
بمناسبة الذكرى الخامسة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز مسؤولية الحكم في المملكة: من المناسب أن نسلط الضوء على معالم هذا العهد، ويهمني بحكم التخصص في مجال السياسة الخارجية، فالمعلوم أن السياسة الخارجية السعودية تقوم على أسس ثابتة، لكنها تطوّر وسائلها بما يتلاءم مع البيئة المتغيرة وطبيعة التحديات التي تواجهها، ولقد أتيح لي أن أتابع الكتابات والممارسات عن قرب قرابة خمسة عقود منذ نهايات السبعينيات وحتى الآن، ثم قُدّر لي أن أمضي ثماني سنوات بالمملكة في مواقع متصلة مباشرة بقضايا السياسة الخارجية السعودية، ومن ثم كانت هذه المحصلة السريعة قائمة على أسس التخصص والمعايشة والممارسة؛ ما يجعلها أقرب إلى الشهادة البحثية منها إلى الاجتهاد الأكاديمي البحت. والسؤال الذي يلحّ على المراقب في هذه المناسبة هو "ما مستحدثات السياسة الخارجية السعودية خلال السنوات الخمس المنصرمة؟".
بالطبع لا تطمع هذه الإطالة في أن تورّخ لهذه الحقبة أو أن تكون كشف حساب لسياسة امتدت عرضاً لتشمل العالم كله وموضوعاً لتدخل الملفات الإقليمية كافة تقريباً، لكنها دعوة إلى الدراسة والتوثيق. وإذا كانت السياسة الخارجية السعودية قد احتفظت بأصالة مبادئها التي وضعها المغفور له ـ بإذن الله ـ الملك عبد العزيز، فإن إبداعات هذه السياسة في جسارتها ووسائلها قد قدمت تطبيقات ناضجة لهذه المبادئ. فأول ما يلاحظ الباحث في هذا القطاع هو أن الانفتاح والحوار كوسيلة لإدارة العلاقات وتوضيح المواقف والحقائق ونبذ كل صور العنف هو الذي يطبع خط السياسة السعودية. وقد مارست المملكة، ومن خلال الملك نفسه، تعميق خط الحوار بين الأديان والثقافات والحضارات؛ وذلك كرد عملي على الحملة الظالمة ضد الإسلام والمسلمين ودعائم العالم الإسلامي وفى مقدمتها المملكة العربية السعودية. ونحن نذكر أن حملة 11 سبتمبر قد استهدفت المملكة مثلما استهدفت الإسلام ديانة وحضارة وثقافة حتى ألحق الغرب تهمة الإرهاب بهذا الدين الحنيف وأتباعه وتاريخه، بل بنبيه الكريم وكتابه العظيم. فلم تعمد المملكة إلى الرد على الاتهامات ومنافحة المهاجمين، وذلك أسلوب قام به من قديم الكتاب والمفكرون من الرد على ما أثير من شبهات على الإسلام .. أما اليوم فإن الغرب قد انطلق من حادثة يثور حولها جدل كبير لكي يغذي منها مشاعر الكراهية، وكأنه اقتضى خضوع المسلمين واقتلاع الإهانات ثمناً لعجزهم عن الرد، وربما ضلل هذا الهجوم بعض ذوي النفوس الضعيفة، فكان الرد العملي إعلان مبدأ الحوار أساساً للعلاقات ودحضاً للمزاعم وإعلاناً للقيم الإسلامية؛ ولذلك بدأت سلسلة مؤتمرات الحوار بمكة المكرمة مهد الدعوة لكي يبلور علماء المسلمين منطلقات الحوار ومبادئه وفق الشريعة الإسلامية.
يتفرع على روح الحوار، التسامح واتساع الأفق من أجل الخير العام مع الإصرار على الحق، وشجاعة نقد الذات؛ ما سمح بمنهج المصالحة بين الأسرة العربية وأنتج جهد الملك في قمتَي الكويت والرياض الكثير، وأثمر في علاقات سورية وأوضاع لبنان وغيرها.
وقد اتسعت ساحات الممارسة الدبلوماسية السعودية على المستويات الخليجية والعربية والإسلامية والدولية استصحاباً لهذه التوجهات والتزاماً بمبادئ العدل والسلام للجميع، فأصبحت المملكة قطباً فاعلاً في جميع هذه الساحات، متسلحة بعديد من أوراق القوة ومتمتعة بالمصداقية التي تليق بها.