أوروبا تواجه التحدي الأكبر
ذكر ميلتون فريدمان أنه من غير الممكن للوحدة النقدية الاستمرار دون تكامل عميق على مستوى جميع السياسات المالية والنقدية وعلى المستوى السياسي أيضاً. الزمن أثبت صحة ما ذهب إليه فريدمان، حيث يمر العالم اليوم بأصعب اختبار لاستدامة أعظم التجارب التاريخية في التكامل الاقتصادي والسياسي الطوعي بين دول الاتحاد الأوروبي. وأؤكد هنا على طوعية هذا التكامل لأن لا أحد فرضه على الأوروبيين كما لم يفرضه الأوروبيون على بعضهم بعضا، لكنه جاء من إرادة وقناعة بفوائد هذا التكامل للجميع. هذه القناعة جعلت الأوروبيين يحاولون تجاوز سنين من التناحر والحروب والتنافس التاريخي بين بعضهم بعضا لتأسيس قوة اقتصادية وسياسية تكون نداً للقوى الاقتصادية والسياسية الأخرى كالولايات المتحدة الأمريكية. وقد قام الأوروبيون بتضحيات كبيرة على مدى مراحل التكامل الاقتصادي التي مروا بها انتهت إلى تأسيس اتحاد أوروبي يتألف من 27 دولة واتحاد نقدي يتكون من 17 دولة (انضمت أستونيا أخيراً إلى الاتحاد النقدي). كذلك توج هذا الاتحاد بثلاث مؤسسات أوروبية رئيسية وهي البرلمان الأوروبي ومجلس الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية، إضافة إلى عدد آخر من المؤسسات التي يتجاوز عددها 14 مؤسسة. لكن هل كان كل ذلك كافياً لضمان تماسك النظام الذي عمل عليه الأوروبيون أكثر من 50 عاماً؟ بالطبع لم يكن ذلك كافياً، وما زال كثير من جذور الانقسام السابق تغلف علاقة الأوروبيين بعضهم بعضا على الرغم من كل ما تم في إطار الاتحاد الأوروبي.
ففي مجال السياسة الخارجية، وعلى الرغم من تعيين ممثل للسياسة الخارجية على مستوى الاتحاد الأوروبي، إلا أن السياسة الخارجية للدول ما زالت مسيطرة، هذا على الرغم من التنسيق الكبير على مستوى الاتحاد في هذا المجال. الألمان ما زالوا هم الألمان، والفرنسيون ما زالوا هم الفرنسيون، وكذلك الإنجليز. كل جهود الوحدة الأوروبية، وكل ما تم عمله لخلق هوية أوروبية موحدة لم يكلل بالنجاح بعد. لأن الأوروبيين في طبيعتهم لا يقبلون الآخر بسهولة والمثال على ذلك أوضاع المهاجرين لديهم بالمقارنة بأوضاعهم في كندا وأستراليا والولايات المتحدة الأمريكية.
أزمة المالية العامة التي حدثت أخيراً أظهرت بشكل جلي تمسك الدول التي دفعت بالوحدة الأوروبية بهوياتها الأصلية على حساب الهوية الأوروبية الموحدة. فلم يكن من السهل على الألمان قبول أن يقوم الألماني بانتشال اليوناني أو الإسباني من أزمته المالية على الرغم من هويتهم الجديدة المشتركة. الأزمة المالية كانت هزة كبيرة جعلت كثيرين يشككون في إمكانية تفكك الوحدة النقدية بخروج اليونان منها، وبعد ذلك انقسام الاتحاد الأوروبي إلى شمال وجنوب. لكن الأوروبيين أدركوا هذا الأمر ولو متأخرين عندما رأوا نموذج التكامل الاقتصادي الذي وضعوه للعالم على وشك التفكك، وهذا جعلهم يصرون على المضي قدما على طريق تصحيح المسيرة على الرغم من التكلفة الكبيرة التي تحملتها دول الاتحاد بسبب ذلك.
مشكلة الاتحاد النقدي الأوروبي الذي كان تتويجاً لسنين من جهود التكامل الاقتصادي الأوروبي عدم اكتمال الجوانب التي تحقق (منطقة العملة المثلى) التي تتطلب تناسقاً كاملاً في كل جوانب القرار السياسي والاقتصادي. فالاتحاد النقدي مضى بقدم واحدة هي الجانب النقدي دون الجانب المالي. إضافة إلى ذلك، لم يكن هناك تفعيل قوي لقانون الاستقرار والنمو الأوروبي التي حددت متطلبات الالتزام في جانب المالية العامة بالنسبة لدول الاتحاد النقدي. هناك أيضاً جانب سوق العمل فأوروبا تعاني بشكل كبير من سيطرة النقابات العمالية التي تحمي الأجور وهذا يضعف تنافسية الصناعات الأوروبية. وأخيراً، تتفاوت دول الاتحاد الأوروبي فيما بينها من حيث الإنتاجية، وهذا يخلق حالة من عدم التوازن في الحسابات الجارية بين دول الاتحاد الأوروبي، فالفائض في ألمانيا مثلاً يعادل قيمة العجز في دول العجز كإسبانيا والبرتغال وإيرلندا.
أوروبا تمر بمرحلة صعبة جداً من تاريخها، فمن ناحية تريد أن تواجه الأزمة المالية العالمية بالاستمرار في حفز الطلب من خلال زيادة الإنفاق العام، ومن ناحية أخرى تريد أن تحافظ على تماسك وحدتها النقدية بالسيطرة على أوضاع المالية العامة المتدهورة في عدد من دول منطقة اليورو، التي أدت إلى زيادة المخاطر السيادية لهذه الدول. وبين هذا وذاك الخيار صعب جداً، فإما السير في تعزيز النمو بالمحافظة على مستويات الإنفاق العام، وإما التركيز على الاستقرار المالي وبالتالي الحد من النمو الاقتصادي. ويبدو أن الأوروبيين اختاروا الخيار الثاني وهو ما يتضح من تصريحات المستشارة الألمانية (أن النمو لا يمكن أن يأتي من خلال عجز ميزانية الدول). إذاً أوروبا اختارت الخروج مبكراً من خطط التحفيز الاقتصادي العالمي على أساس أن الاستقرار العالمي يجب ألا يأتي على حساب استقرار وتماسك الاتحاد الأوروبي.