الصين والمخاطر المرتبطة باحتمالات فرط النشاط الاقتصادي

التغيير الأكثر أهمية الذي ربما يساعد على إبقاء المشكلة تحت السيطرة هو أن السلطات النقدية الصينية كانت حريصة على كبح جماح نمو هذه الديون منذ أواخر العام الماضي. فقد أصبحت فرص الاقتراض المحلية مغلقة عموماً، وعمليات التفتيش لا تنقطع بهدف الحصول على صورة دقيقة للموقف. ومع استمرار النمو الاقتصادي فإن الخطر المحتمل الذي قد تفرضه هذه الديون سيتلاشى في النهاية.

في حين تتعامل أجزاء من العالم مع تداعيات الأزمة المالية أو مع أزمة الديون السيادية الناشئة، فإن الصين تحاول التغلب على المخاطر المرتبطة باحتمالات فرط النشاط الاقتصادي والتضخم و/أو نشوء فقاعات الأصول.
ولعل عديدا من العوامل تدفع اقتصاد الصين في هذا الاتجاه. والواقع أن أكثر هذه العوامل إثارة للقلق والانزعاج هو العامل نفسه الذي أشعل الأزمة الحالية في منطقة اليورو: الديون العامة السريعة النمو, ففي منطقة اليورو تتعلق المشكلة بالديون السيادية للبلدان الأعضاء؛ وفي الصين تدور المشكلة حول الاقتراض المرتبط بالحكومات المحلية.
في منطقة اليورو يُعَد نظام الرعاية الاجتماعية المتضخم، خاصة مع تزايد أعداد المتقاعدين بسرعة كبيرة والتباطؤ الاقتصادي الناتج عن الأزمة المالية، من العناصر الرئيسة في مشكلة الديون البنيوية. وفي الصين لجأ المسؤولون المحليون إلى زيادة الاقتراض من أجل ضمان بقاء معدلات النمو الاقتصادي في مناطقهم عند مستوى 10 في المائة أو أكثر.ومن غير المدهش أن نجد قواسم مشتركة بين الصين ومنطقة اليورو. من الواضح أن الديون تتراكم حيثما أراد الناس أن ينفقوا بما يتجاوز مدخراتهم. لكن وجه الشبه الأكثر تحديداً هو أن البلدان المثقلة بالديون في منطقة اليورو والأقاليم والمقاطعات الصينية كانت تفرط في الإنفاق من عملة مشتركة.
ولأن هذه الأموال لم يصدرها أو يسيطر عليها أي من البلدان الأعضاء أو الحكومات المحلية، فإن بلدان منطقة اليورو والحكومات المحلية في الصين غير قادرة على تخفيف مشكلات الديون من خلال خفض قيمة العملة, لذا فحين يحدث التخلف عن سداد الدين أو العجز عن سداده بالكامل فإن العواقب السلبية تؤثر في «المنطقة» المالية والنقدية بالكامل ـ الاتحاد الأوروبي بالكامل، وكل الصين.
ولتجنب «أزمة ديون سيادية» داخلية كهذه، فقد ذهب قانون الموازنة الصيني الذي اعتمد عام 1994 إلى منع الحكومات المحلية من الاقتراض بصورة مستقلة، سواء بإصدار سندات للجمهور أو بالاقتراض من البنوك. ومن الناحية النظرية فإن هذا يعني أن الحكومات المحلية غير قادرة على تمويل عجزها من خلال زيادة مستويات دينها، وذلك لأنها لا تستطيع أن تقترض إلا من الحكومة المركزية أو غيرها من السلطات المركزية.
لكن قانون الموازنة لم ينه المشكلة, ففي حين عجزت الحكومات المحلية عن الاقتراض فإن شركات الاستثمار المحلية المملوكة للدولة ظلت قادرة على الاقتراض, لذا فمن غير المدهش أن يمر كم ضخم من القروض المصرفية عبر الفروع المحلية للبنوك المملوكة للدولة لتمويل مشاريع الاستثمارات العامة المحلية.
وتسببت هذه القروض في ارتفاع حجم القروض المصرفية غير المسددة في أوائل ومنتصف تسعينيات القرن الـ 20، حين بلغ إجمالي القروض غير المسددة 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وأدى هذا إلى حدوث أزمة ائتمانية وانكماش دام فترة طويلة في أواخر التسعينيات، في حين حاولت الحكومة المركزية إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ونظراً لخصخصة الشركات المؤسسات المملوكة للدولة وتحسين القواعد التنظيمية المالية، بما في ذلك الإشراف على البنوك والسيطرة على عامل المجازفة، فقد أصبحت الموازنات المركزية والمحلية منذ عام 2000 في حالة جيدة بوجه عام. وأصبحت نسبة إجمالي الديون العامة إلى الناتج المحلي الإجمالي أقل من 22 في المائة أثناء الفترة 2007 إلى 2008، قبل اندلاع الأزمة المالية العالمية. وبطبيعة الحال استمر بعض الاقتراض من جانب الحكومات المحلية، لكن على نطاق محدود (لم يتجاوز في مجموعه 3 إلى 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك بفضل الإشراف المؤسسي على الإقراض).
ثم اندلعت الأزمة المالية، فاضطرت الحكومة المركزية إلى تبني الحوافز المالية وتخفيف السياسة النقدية. وجرى تشجيع الحكومات المحلية على زيادة إنفاقها على مشاريع البنية الأساسية العامة. ونتيجة لهذا زاد حجم الائتمان المصرفي في تمويل الاستثمارات المحلية بمقدار ستة أضعاف عام 2009 وحده. والواقع أن إجمالي الاقتراض من جانب الحكومات المحلية يعادل الآن نحو 900 مليار دولار (أي ما يقرب من 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، بعد أن كان 150 مليار دولار فقط في الفترة نفسها من العام الماضي.
وهذا المستوى من الاقتراض يشكل نوعاً جديداً من المجازفة المالية بالنسبة للصين .. لكن ما مدى خطورة وحجم هذه المجازفة؟
في اعتقادي أن الأمر ما زال تحت السيطرة, فمن الممكن تبرير بعض الاقتراض المحلي من خلال تخصيص الموازنة المركزية للمشاريع المحلية. فضلاً عن ذلك فإن بعض الإنفاق المحلي استهدف المناطق التي ستستمر في التمتع بمعدلات نمو مرتفعة في العائدات الضريبية في المستقبل القريب، وهذا من شأنه أن يضمن القدرة على سداد الديون. وربما كان بوسعنا أن نجزم بأن ثلث إجمالي القروض فقط ربما يمثل مشكلة؛ أما بقيتها فسيستمر سدادها بشكل طبيعي. والتغيير الأكثر أهمية الذي ربما يساعد على إبقاء المشكلة تحت السيطرة هو أن السلطات النقدية الصينية كانت حريصة على كبح جماح نمو هذه الديون منذ أواخر العام الماضي. فقد أصبحت فرص الاقتراض المحلية مغلقة عموماً، وعمليات التفتيش لا تنقطع بهدف الحصول على صورة دقيقة للموقف. ومع استمرار النمو الاقتصادي فإن الخطر المحتمل الذي قد تفرضه هذه الديون سيتلاشى في النهاية. ويستمد المسؤولون الصينيون الدروس من عبء الديون الثقيل هذا، وهم يخشون احتمال تسبب الحكومات المحلية في خلق «أزمة يونانية» داخلية في بقية الصين. والواقع أن السلطات تدرك أهمية فرض الانضباط المالي والقيود التنظيمية الصارمة. وهذا يعني ضرورة مراقبة وتقييد الاستعانة بالروافع المالية من جانب أي هيئة عامة.
بطبيعة الحال، لم تتمتع الحكومات المحلية الصينية أبدا بالاستقلال المالي والضريبي الكامل. ومنذ نجحت أسرة تشين في توحيد البلاد وتأسيس نظام مركزي قبل ألفي عام من الزمان تقريباً، فقد ظلت المسؤولية عن الديون تمثل مشكلة خاصة بالحكومة المركزية. ويتعين على هؤلاء الذين يدافعون عن فكرة تطبيق اللامركزية المالية وإلغاء القيود التنظيمية في الصين أن يفكروا أولاً في ترسيخ المسؤولية المالية المحلية الحقيقية.
لقد أسهم الإطار القانوني المعمول به حالياً في الصين في إيجاد التوازن الضريبي والاستقرار المالي في الماضي، وما زال هذا الإطار القانوني مستمراً في الاضطلاع بدور إيجابي. ولولا ذلك لكانت الصين قد شهدت بالفعل أزمة «ديون سيادية» محلية خاصة، بل لعلها كانت لتشهد حالة من فرط التضخم. لكن حين تُمنَع الحكومات المحلية من تمويل الديون، فإنها تبحث عن سبل أخرى. على سبيل المثال، تحاول هذه الحكومات الحصول على أكبر قدر ممكن من العائد من بيع الأراضي، الأمر الذي لا بد أن يدفع أسعار الإسكان إلى الارتفاع ويساعد على تضخم فقاعات الأصول.
ونظراً للعواقب السلبية المترتبة على هذا التوجه، فقد يكون من الحكمة أن تفكر الحكومة المركزية في تحديد حصص أو أسقف لإجمالي اقتراض الحكومات المحلية في الأمد القريب, أما في الأمد البعيد فلن يضمن الاستقرار المالي والضريبي في الصين غير الإصلاح المؤسسي المنهجي للعلاقة بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010
www.project-syndicate.org

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي