القضية الفلسطينية تعيش مرحلة التوظيف السياسي والاختزال الأيديولوجي
''كانت فلسطين لكم ..
قميص عثمان الذي بِه تُتاجرون ..
طوبى لكم ..
فألف تُشكرون ..''.
بهذه الأبيات الشعرية الدالة والصارخة في آن، أوجز الراحل نزار قباني أحد أهم المطبّات الأخلاقية والميدانية التي تُواجَهُ بها القضية الفلسطينية، ونتحدث عن مأزقي التوظيف السياسي والاختزال الأيديولوجي, على أن الخوض في مأزقي التوظيف السياسي والاختزال الأيديولوجي، يتطلب تأسيس أرضية مُتفق حولها، من باب الرضوخ لمُسلّمات منهجية، حتى تتّضح أكثر فداحة تبعات التوظيف والاختزال.
ـ تفيد المُسلّمة الأولى بأن القضية الفلسطينية قضية اجتماعية بالدرجة الأولى تتداخل فيها معطيات حضارية وإنسانية وتاريخية وسياسية وأمنية واستراتيجية، ومن باب تحصيل حاصل، تتداخل عوامل سياسية. (ليس مصادفة أن يؤكد ممثل عن المرشد الإيراني علي خامنئي، الأحد الماضي, أن ''قوات الصفوة في الحرس الثوري الإيراني مستعدة لتوفير حراسة عسكرية لسفن الشحن التي تحاول كسر الحصار الإسرائيلي على غزة''، وليس مصادفة أيضا، أن يأتي الرد السريع على لسان جمال الخضري النائب عن حركة حماس، قائلا: ''لا نريد أي تدخل عسكري'').
ـ تفيد المُسلّمة الثانية بأن الظواهر الاجتماعية، وبحكم أنها بالضرورة ظواهر مُركبة وليست ''بسيطة'' أو سهلة التناول، تتطلب نماذج تفسيرية قطعا مُركبة. وقد لخصّ الراحل عبد الوهاب المسيري في تعريف جامع مانع، مفهوم أهمية ''النموذج التفسيري''، كما جاء في تحفته المعرفية التي تحمل عنوان: ''العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة''، مفاده أنه (عندما يتجه الإنسان إلى ظاهرة ما مستهدفا تفسيرها، فإنه يقوم بعدة خطوات حتى يصل إلى هذا التفسير، وحينما يرى الإنسان ظاهرة ما، فعليه التعامل مع عدد كبير من العلاقات والتفاصيل والحقائق والوقائع، وعندئذ يقوم العقل باستبعاد بعضها لأنه يعتقد أنه لا دلالة لها ''من وجهة نظره'' ويستبقي البعض الآخر ''وهذا هو التجريد'', وتأتي بعد ذلك خطوة الربط بين العلاقات والوقائع والحقائق التي أبقاها فينسقها تنسيقا خاصا بحيث تصبح حسب تصوره مماثلة للواقع، أي أن تكون قادرة على تقديم صورة معبرة بشكل صحيح عن الواقع).
تأسيسا على مُقتضيات المُسلّمتين سالفتي الذكر، يمكننا التوقف عند دلالات ومآزق الأمثلة الميدانية التالية، كما صدرت في الحقل التداولي المغربي (نموذجا)، ونحسب أن الأمور لا تختلف كثيرا عما يجري في حقول عربية وإسلامية أخرى، بحكم خضوع الجميع لمقتضيات ''العقل الإسلامي الراهن''، وإن كانت هناك بعض الفوارق في الأمثلة والنماذج، فلا تعدو أن تكون فوارق في الشكل والمظهر، وليس في الجوهر والمضمون.
1 ــ ما قام به حزب ''العدالة والتنمية'' الإسلامي المغربي، عبر وضع صورة نائب برلماني ينتمي للحزب على كرسيه في المجلس النيابي، ونشر الصورة على غلاف أسبوعية الحزب تحت عنوان ''أسطول الحرية والشهادة'', يندرج قطعا ضمن باب التوظيف، لأن المُطّلع على الصورة قد يَتوهّم أن الرجل/النائب ''استشهد في فلسطين''، بينما كان قادما من عمان إلى المغرب مُعززا مُكرما على متن الطائرة، دون التذكير بأن مبادرة الرجل كانت شخصية، ولم تكن حزبية، كما يتوهم قارئ صحف الحزب.
2 ــ لا تختلف الأمور عما يعتزم القيام به حزب سياسي آخر في الساحة المغربية، حزب ''الأصالة والمعاصرة''، ويوصف بأنه حزب يميني/إداري حديث التأسيس في الساحة المغربية، من خلال إرسال بعثة حزبية إلى بعض الدول الأوروبية، من أجل التحسيس بسُمو ونُبل هذه القضية الإنسانية (والعربية الإسلامية)، والإسهام في ''الضغط'' على صناع القرار الأوروبي، ولو من باب تحريك المياه الراكدة، ويعلم أهل هذا الحزب أن أقصى ما صدر عن الدول العربية تجسد في مبادرات التطبيع السياسي بين مصر والأردن مع هذا الكيان الغاصب، مقابل مقترح ''المبادرة العربية'' الصادر عن المملكة العربية السعودية، والمبادرات المغربية من خلال بيت مال القدس الشريف، وأيضا، مبادرات حركات المقاومة في الأراضي المحتلة بمختلف مرجعياتها الأيديولوجية.
3 ــ هناك نموذج آخر من التوظيف، صدر عن جماعة ''العدل والإحسان''، (كُبرى الحركات الإسلامية في المغرب)، عندما اعتبر أحد رموزها من المشاركين في قافلة ''أسطول الحرية'' أن أهم دروس الاعتداء الدموي الأخير الصادر عن هذا النموذج السياسي/الأيديولوجي الإسرائيلي، يكمن في تأمل عائد المبادرات السلمية، مقابل عائد المبادرات العسكرية.
صدر هذا التصريح عقب تنظيم مئات من أعضاء الجماعة وقفات احتجاجية أمام بعض المساجد، مباشرة بعد انتهاء أداء صلاة الجمعة، وبحكم أن الوقفة تميّزت بحضور أمني لافت، فقد كان بَدَهيا أن يتساءل بعض هؤلاء الأمنيين عن دلالات تمرير هذا التصريح، خاصة أن الجماعة ترفع شعار/مشروع ''القومة'' (أو الثورة السلمية) في صراعها ضد السلطة الزمنية الحاكمة في المغرب، المُجسّدة في منظومة إمارة المؤمنين والمؤسسة الملكية في آن.
هذه نماذج بسيطة عن مآزق الاختزال الصادرة عن أهل اليمين واليسار في بلد قطري واحد، ولنا أن نتصور طبيعة النماذج الأخرى الصادرة في عديد من الأنظمة الزمنية الحاكمة، وعن باقي التيارات الأيديولوجية في الرقعة العربية والإسلامية، ولا يخرج تنظيم ''القاعدة'' عن دائرة التوظيف، وبشهادة أهل ''القاعدة'' هذه المرة، كما نطّلع على ذلك جليّا في كتابي ''تنظيم القاعدة: الأخطاء والأخطار'' الصادر عن رموز ''الجماعة الإسلامية'' المصرية، وأيضا في كتاب ''مستقبل الصراع في أفغانستان''، وأّلفه مؤلف ''دستور'' تنظيم ''القاعدة''، سيد إمام عبد العزيز، المعروف بلقب الشيخ فضل.
نأتي، لموضوع الاختزال الأيديولوجي، ويرتبط ــ للمفارقة ــ بمأزق التوظيف السياسي، ذلك أنه من أهم ''حسنات'' هذا التوظيف، أنه يساعد المعني به على تفادي تفكيك القضية، والتفكير في الأسئلة الكبرى والمُحرِجة التي تطرحها على عقلنا الإسلامي، وليس اختزالها في وضع صورة نائب برلماني محترم لا يخجل من توظيف الإسلام في اللعبة السياسية، أو عبر إيفاد سياسيين للديار الأوروبية من أجل التعريف بقضية إنسانية مُركبة ومُعقدة، عبر ''رحلة سياحية''.
نقرأ في أحدث التقارير الإحصائية والمُخصصة لواقع البحث العلمي بين الدول العربية وإسرائيل، أن هذه الأخيرة تتفوق بشكل كبير وملحوظ على الدول العربية كافة، إضافة إلى إعداد العلماء في كلا الجانبين، وجاء في دراسة أعدها الدكتور خالد سعيد ربايعة، وهو باحث فلسطيني من مركز ''أبحاث المعلوماتية في الجامعة العربية الأمريكية'' في الأراضي الفلسطينية، أن الجامعات الإسرائيلية حظيت بمراكز متقدمة على المستوى العالمي حسب التصنيفات الدولية، وخاصة الجامعة العبرية التي احتلت المركز 64 على مستوى العالم، بينما لم يرد ذكر أي من الجامعات العربية في الـ 500 جامعة الأولى. (تنفق إسرائيل على البحث العلمي ضعف ما ينفق في العالم العربي، حيث بلغ مجموع ما أنفق في إسرائيل على البحث العلمي غير العسكري ما يعادل نحو تسعة مليارات دولار حسب معطيات 2008، وتنفق إسرائيل ما مقداره 4.7 في المائة من إنتاجها القومي على البحث العلمي، وهذا يمثل أعلى نسبة إنفاق في العالم، بينما تنفق الدول العربية ما مقداره 0.2 في المائة من دخلها القومي, والدول العربية في آسيا تنفق فقط 0.1 في المائة من دخلها القومي على البحث العلمي، أما بالنسبة لبراءات الاختراع، فهي المؤشر الأكثر تباينا بين الجانبين، حيث سجّلت إسرائيل ما مقداره 16805 براءات اختراع، بينما سجل العرب مجتمعين نحو 836 براءة اختراع في كل تاريخ حياتهم، وهو يمثل 5 في المائة من عدد براءات الاختراع المسجلة في إسرائيل).
لنلاحظ أننا نتحدث فقط في القطاع العلمي/المعرفي، ولا نتحدث عما يجري في القطاع السياسي أو الديني أو الفني أو الرياضي، ويمكن تفريع النقاش والأمثلة على باقي الدول العربية والإسلامية.
هل يمكن لواقع علمي/معرفي معطوب حضاريا (وبالتالي استراتيجيا وسياسيا) إلى هذه الدرجة أن يُحسن التعامل مع قلاقل قضية إنسانية (وعربية إسلامية) مُعقدة، أم أن ذر الرماد على العيون يتطلب من ''العقل الإسلامي الراهن'' الرهان على اختزال هذا التعامل في بضع مظاهرات احتجاجية ومسيرات تضامنية، من باب تكريس خيار التوظيف السياسي والاختزال الأيديولوجي؟!