ثرثرة حول قضية نهر النيل
اشتد الخلاف بين مصر والسودان من جهة وأغلبية دول حوض نهر النيل من جهة أخرى حول حصص دول الحوض من مياه النهر، فمعظم دول المنبع تطالب بزيادة حصتها المائية على نحو يتواكب مع تزايد احتياجاتها ومتطلبات تنميتها. أما دولتا المصب مصر والسودان فتتمسكان بحقوقهما التاريخية المكتسبة منذ القدم, التي قننتها الاتفاقيات الدولية التي أبرمت بشأن نهر النيل, وترفضان رفضاً قاطعاً المساس بهذه الحقوق.
تناول بعض الكتاب والصحافيين المصريين هذا الموضوع بالتحليل القانوني والسياسي والتاريخي الرصين وأوضحوا أن حجة مصر وإن كانت من الناحية القانونية قوية إلا أن الخطأ الذي تم ارتكابه يكمن في عدم الاهتمام الكافي بتنمية العلاقات مع دول الحوض التي تدين أكثرها بالفضل لمصر الناصرية في التحرر من السيطرة الأجنبية.
والواقع أن الباحثين المصريين اهتموا منذ أمد بعيد بموضوع نهر النيل ونشروا أبحاثاً وكتباً في هذا الشأن، أذكر منها كتاب «مياه النيل في السياسة المصرية ثلاثية التنمية والسياسة والميراث التاريخي» لأمين السيد عبد الوهاب، وكتاب «قانون استخدام الأنهار الدولية في الشؤون غير الملاحية وتطبيقه على نهر النيل» للدكتور مصطفى سيد عبد الرحمن, وكتاب «التلوث النهري الدولي وتطبيقه على نهر النيل» للدكتور عبد الهادي محمد العشري. يضاف إلى ذلك أن بعض مؤلفات أساتذة القانون الدولي في مصر تضمنت مباحث خاصة بنهر النيل، وأذكر هنا على سبيل المثال كتاب «القانون الدولي العام» للدكتور علي صادق أبو هيف ـ رحمه الله ـ الذي كان أستاذاً ورئيساً لقسم القانون الدولي العام في كلية الحقوق في جامعة الإسكندرية, وكتاب «القانون الدولي العام وقت السلم» للدكتور حامد سلطان ـ رحمه الله ـ الذي كان أستاذاً ورئيساً لقسم القانون الدولي العام في كلية الحقوق في جامعة القاهرة.
وفي مقابل هذه الدراسات والمقالات الجادة، ظهرت ثرثرة حول قضية نهر النيل، تقضي الأمانة العلمية والمهنية دحضها حتى لا تنطلي أباطيلها على قراء الجيل الحالي، وأسوق على ذلك مثالاً بالأخطاء الفادحة التي وقع فيها عادل درويش في مقاله المنشور في جريدة «الشرق الأوسط» بتاريخ 22/5/2010 بعنوان «الحق التاريخي في المياه أهم القوانين»، فأقول ما يلي:
أولاً: زعم الكاتب المذكور أن حكومة مصر في عهد «شباب العسكر قليلي الخبرة» ويقصد بذلك الحقبة الناصرية, فرطت في المصالح القومية بتجاهل ثوابت معاهدة 1929 بتوقيع اتفاقية 1959 قائلاً إن المعاهدة من الناحية القانونية أقوى من الاتفاقية لديمومة الأولى وديناميكية الثانية وقابليتها للتعديل والتغيير، وهو ما تجاهله العسكر، مدعين فهمهم (لكل حاجة) ... ثم قال في موضع آخر من مقاله «ولأن المعاهدة أكثر إلزاماً وربطاً قانونياً من الاتفاقيات فأنا أجادل من هذا المنبر المرموق بإعادة النظر في اتفاقيات 1959 وما تلاها لاستئصال أي بند يناقض معاهدة 1929).
والواقع أنه لا يوجد في القانون الدولي فرق بين المعاهدة والاتفاقية، فالمعاهدة كما عرفتها المادة الثانية من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 تعني «كل اتفاق دولي يعقد بين دولتين أو أكثر كتابة ويخضع للقانون الدولي سواء تم في وثيقة واحدة أو أكثر وأياً كانت التسمية التي تطبق عليه».
ويتضح من هذا التعريف أنه لا صحة للتفرقة التي أتى بها الكاتب بين المعاهدة والاتفاقية، فالاتفاقات التي تعقدها الدول سواء سميت معاهدة أو اتفاقية أو ميثاقا أو بروتوكولا أو أي اسم آخر تخضع لقواعد قانونية واحدة نظمتها اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن جميع المعاهدات قابلة وفق ضوابط محددة، للتغيير أو التعديل إذا حدث تغير جوهري في الأوضاع والظروف التي كانت سائدة عند إبرامها ما عدا المعاهدات المنشئة للحدود الدولية.
ثانياً: ليس صحيحاً ما زعمه الكاتب أن الاتفاقية المبرمة بين مصر والسودان سنة 1959 أثرت في الحقوق التاريخية للدولتين التي نظمتها اتفاقية عام 1929, فالواقع أن اتفاقية 1959، التي تم توقيعها إبان الوحدة المصرية السورية تحت اسم (الجمهورية العربية المتحدة)، أكدت هذه الحقوق وحافظت على مضامين اتفاقية 1929, كما أنها نظمت كيفية استفادة الدولتين من مياه النيل وتوزيع حصيلة الماء المتوافر بعد إتمام بناء السد العالي بين الدولتين بنسب معينة.
وأنقل هنا ما قاله الدكتور علي صادق أبو هيف، في كتابه «القانون الدولي العام» حول شرح الاتفاقية المذكورة حيث قال ما يلي:
أولاً: الحقوق المكتسبة: يكون حقاً لكل من الدولتين في مياه النيل ما تستخدمه فعلاً كل منهما وقت توقيع هذه الاتفاقية قبل الحصول على الفوائد الناتجة عن مشاريع ضبط النهر وزيادة إيراده. ومقدار هذا الحق 48 ملياراً من الأمتار المكعبة مقدرة عند أسوان سنوياً للجمهورية العربية المتحدة، وأربعة مليارات من الأمتار المكعبة مقدرة كذلك عند أسوان سنوياً للجمهورية السودانية.
ثانياً: مشاريع ضبط النهر وتوزيع فوائدها: لضبط مياه النهر ومنع انسيابه إلى البحر يوافق الطرفان على أن تنشئ الجمهورية العربية المتحدة خزان السد العالي كحلقة أولى من مشاريع التخزين على النيل، وأن تنشئ جمهورية السودان خزان الروصيرص على النيل الأزرق, وأي أعمال أخرى تراها لازمة، لاستغلال نصيبها.
ويوزع صافي فائدة السد العالي (المقدر بـ 22 مليار متر مكعب) بنسبة 14.5 للسودان و7.5 للجمهورية العربية المتحدة، وذلك إذا ظل متوسط الإيراد في المستقبل في هذه الحدود، فإذا زاد على ذلك فتوزع صافي الزيادة مناصفة بين الجمهوريتين.
وتدفع الجمهورية العربية لحكومة السودان مبلغ 15 مليونا من الجنيهات المصرية بصفة تعويض شامل عن الأضرار التي تلحق بالممتلكات السودانية نتيجة التخزين في السد العالي، وتتعهد حكومة السودان بأن تتخذ من جانبها إجراءات ترحيل سكان حلفا وغيرهم من السودانيين الذين ستغمر أراضيهم بمياه التخزين.
ثالثاً: مشاريع استغلال المياه الضائعة في حوض النيل: تتولى جمهورية السودان بالاتفاق مع الجمهورية العربية المتحدة إنشاء مشاريع زيادة إيراد النيل بمنع الضائع من مياهه في مستنقعات بحر الجبل وبحر الزراف وبحر الغزال ونهر السوباط وحوض النيل الأزرق، ويوزع صافي فائدة هذه المشاريع مناصفة بين الجمهوريتين, وتسهم كل منهما في جملة التكاليف بهذه النسبة أيضاً.
رابعاً: التعاون الفني بين الجمهوريتين: لتحقيق التعاون الفني بين حكومتي الجمهوريتين للسير في البحوث اللازمة لمشاريع ضبط النهر وزيادة إيراده، تنشأ هيئة فنية دائمة بعدد متساو من كل منهما، ويكون اختصاصها رسم الخطوط الرئيسية للمشاريع المذكورة ثم وضعها في صورة كاملة تتقدم بها إلى حكومتي الجمهوريتين لإقرارها، ثم الإشراف على تنفيذ المشاريع التي تقرها الحكومتان.
خامساً: أحكام عامة في شأن دول المجرى الأخرى: عندما تدعو الحاجة إلى إجراء أي بحث في شؤون مياه النيل مع أي بلد من البلاد الواقعة عليه غير الجمهوريتين العربية والسودانية، فتتفق حكومتا هاتين الجمهوريتين على رأي موحد بشأنه بعد دراسته بمعرفة الهيئة الفنية المشار إليها. كذلك تتفق الحكومتان على رأي موحد بشأن مطالبة هذه البلاد بنصيب في مياه النيل. وإذا أسفر البحث عن إمكان قبول أية كمية من إيراد النهر تخصص لبلد منها أو لآخر فإن هذا القدر محسوباً عند أسوان يخصم مناصفة بينهما.
وأخيراً أقول إنه يكاد أساتذة وفقهاء القانون الدولي في مصر يجمعون على أن اتفاقية 1959 بين مصر والسودان تعتبر مثالاً نموذجياً للتعاون بين الدول المشاطئة في مجال استقلال الأنهار الدولية دون إجحاف بالحقوق التاريخية لأي منهما ودون الإضرار بحقوق باقي دول حوض النهر، لكن شهوة عادل درويش للقدح في الحقبة الناصرية بسبب ودون سبب تدفعه في كثير من مقالاته التي تتناول شؤون مصر إلى أن يهرف بما لا يعرف أو أن يتجاهل الحقائق والبعد عن الحيدة والموضوعية. ولقد علمنا القرآن الكريم أن نعدل في أحكامنا حتى مع الذين نكرههم «لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى».