Author

مخاطر احتكار المعرفة على النصوص الدينية والدنيوية

|
أستاذ جامعي ـ السويد
تحدثنا كثيرا عن كيفية قراءة النصوص المكتوبة إن كانت دينية أو دنيوية وتأثير السلطة في تفسيرها أو تقديمها أو تأخيرها. وكذلك تحدثنا عن الأثر الذي يتركه احتكار المعرفة على النص وكيف يقوم الدعاة والوعاظ والمفسرون باستغلال معرفتهم لإغراض قد تبتعد أو تقترب من روحية وجوهر النص. والمعرفة التي أقصدها تتجاوز النصوص العلمية التي لها خاصيتها التي قلما تتدخل في تكويننا الإنساني ووجودنا وعلاقتنا بالكون وخالقه وعلاقتنا مع بعضنا نحن البشر. هذه النصوص تحتاج إلى مختصين ومحتكرين لأن المعرفة العلمية من الاتساع حيث من غير الممكن للبشر جميعا الإلمام بها. لنأخذ هذا النص العلمي مثالا: «السرطان خلل في خلايا الجسم، ذلك أن للخلايا السليمة آلية ذات طبيعة داخلية منظمة، وهي تتطور وتنمو وتحافظ على كيانها بتناسق وترتيب، وتتكيف باستمرار مع الجزء الذي توجد فيه من الجسم». هذا النص العلمي لا يهزني ولا يغير في نفسي شيئا. إنه نص خال من العواطف والأحاسيس لا علاقة مباشرة أو حتى غير مباشرة له مع وجودي كإنسان ولا يحدد موقفي تجاه خالق الكون ورسله ولا يجعلني أنهض مبكرا وأهرع إلى الجامع لتأدية الصلاة. وإن أردت مزيدا ومعرفة إن كان لدي خلايا سرطانية أم لا ليس علي إلا الذهاب إلى الشخص الذي يملك المعرفة والأجهزة الطبية الخاصة بكشف ذلك. هنا المعرفة لها دور محدد وترتبط بها شروط وقوانين أرضية محددة تحدد الحقوق والواجبات. أي أنها معرفة منظمة ومنسقة وضع أسسها البشر. هذه النصوص لا تعنينا البتة لأنها لا تمس نفوسنا ومصيرنا ووجودنا في هذا العالم والعالم الآتي. ولنقرأ معاً نصا آخر وننظر التأثير الذي يحدثه في أنفسنا:  «فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا». من منا لم يرتعش من خشية الله عند قراءته هذا النص. أنا لست مسلما ولكن كلما أقرأه أو أسمعه مرتلا تغرورق عيناي بالدموع. هذا النص يؤثر في وجودي وتكويني وعلاقتي مع الكون وخالقه وحياتي في هذه الأرض وما بعدها. وقبل أن أصل إلى ختام هذه الرسالة، لنقرأ نصا آخر. وهنا أتحدى أي إنسان يحمل ذرة من الإنسانية ألا يكترث بوجوده وعلاقته مع أخيه في الإنسانية بعد قراءته: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ). هذا النص والذي قبله مع نصوص أخرى والتي تكوّن مع بعضها الذكر غيرت في أقوام وأنفسهم ومن خلالهم تغير وجه البشرية. وإذا ركزنا على هذين النصين وتفسيرهما وعملنا بهما لحدث تغير إيجابي هائل في أنفسنا. النص الأول يؤدي بنا إلى التواضع أمام عظمة الله ومعجزاته وقبول تدبيره، والنص الثاني يحكم علينا بالإحسان والتعامل السليم مع الآخر وإن كان يتيما. ألم يفعل الله مع رسوله ذات الشيء؟ أنا لست واعظا أو داعية ولكن انطلاقا من هذين النصين يحق لي محاسبة نفسي أولا ومحاسبة أي داعية يحتكر المعرفة لأغراض معينة. أحاسب نفسي إن كنت قد تصرفت بما يمليه علي النص الذي لا يحتاج إلى احتكار معرفي كما هو الشأن مع النص الأول المذكور أعلاه. وأحاسب محتكر المعرفة إن حاول تهميش النص وتقديم أمور هامشية عليه. هل يسمح النص باقتناء الخادمات والخدم وإساءة معاملة الناس؟ هل يسمح النص بتكديس المال وجعله صنما ومئات الملايين من المسلمين يتضورون جوعا؟ محتكر المعرفة قد يجيز ما لا يجيزه النص لأنه معني بالأمر وستتضرر مصالحه إن لم يفعل ذلك وإن فعل يصطدم بالسلطة التي تتخذ من المال واسطة لتثبيت أركانها. ومصالحنا أيضا ستضار إن تشبثنا بالتفسير الحقيقي للنص لأن أغلبيتنا أصبحوا جزءا من السلطة ووعاظها ومفسريها ودعاتها من محتكري المعرفة. ولهذا يؤنبنا الله لقساوة قلوبنا وعدم السماح لأنفسنا بالتغير رغم وضوح النص وتفسيره الذي لا يحتاج إلى محتكر للمعرفة على الإطلاق. ربما لأننا أقل استعدادا لقبول النص وتغير أنفسنا حسب وصاياه حتى من الجبال: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله».
إنشرها