أفول مشروع«المحافظين الجدد» بنهاية«الحرب على الإرهاب»

كان علينا انتظار تسع سنوات ونيف، حتى نطلع على معالم أهم منعطف تاريخي واستراتيجي أمريكي في حقبة ما بعد منعطف/ صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن، وتجسّد في التخلي الأمريكي الرسمي عن عبارة«الحرب على الإرهاب» في استراتيجيتها الأمنية الجديدة، حسب ما حفِلت به وثيقة«استراتيجية الأمن القومي»، وتُسطّر الوثيقة في الواقع، لأهم معالم الطريقة التي تُقيّم فيها الولايات المتحدة التهديدات.

وجاء أهم منعطف في ذات الوثيقة ـ التي حظيت بصمت إعلام الحركات الإسلامية بشكل عام، والحركات الإسلامية بشكل خاص، لاعتبارات سنُعرج عليها فيما بعد ـ من خلال الحديث عن سعي الإدارة الأمريكية«على الدوام إلى نزع الشرعية عن الأعمال الإرهابية وعزل كل من يمارسونها»، والتأكيد أيضا على أن الحرب شبه الكونية القائمة اليوم بين الإدارة الأمريكية والعديد من الأنظمة الغربية والعربية الإسلامية، وبين الحركات الإسلامية«الجهادية»،«ليست حربا عالمية على تكتيك هو الإرهاب أو ديانة هي الإسلام»، مُتخلية بشكل جلّي ـ بيت القصيد ـ عن مفهوم/ شعار«الحرب على الإرهاب» الذي كررته إدارة جورج بوش الابن، مضيفة أننا«في حرب مع شبكة بعينها هي القاعدة ومع فروعها التي تدعم الأعمال الموجهة لمهاجمة الولايات المتحدة وحلفائنا وشركائنا». لم تنس باقي معالم الوثيقة الاستراتيجية التوقف عند الملف النووي الإيراني والكوري الشمالي، ولم تتجاهل التحديات البيئية والاقتصادية والتعليمية التي تواجه سكان المعمورة، وغيرها من القضايا، لولا أنه يهمنا أكثر التوقف تحديدا عند منعطف التطليق النهائي للحديث عن«الحرب على الإرهاب»، باعتبار أنه جسّد، قرابة عقد من الزمن، شعار الظرفية العالمية، ومفتاح علاقات الشراكة الأمنية والاستراتيجية بين الإدارة الأمريكية، وباقي دول العالم، وضمن هذه الدول، الوطن العربي والعالم الإسلامي، بكل التداعيات الميدانية المؤرقة التي تسبّبَت فيها هذه الشراكة المؤرقة، على طبيعة تدبير صناع القرار العربي والإسلامي، لمعالم السياسات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية للشعوب العربية والإسلامية.

انقلاب أوباما على بوش و»المحافظين الجدد»
ليس صدفة أن يُعلن هذا المنعطف في حقبة ولاية الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما، من منطلق أن الوثيقة صدرت بعد مناقشات مكثفة استمرت 16 شهرا منذ توليه الحكم، وخلافة الرئيس الأمريكي السابق، جورج بوش. ولأن صناعة القرار الأمني والاستراتيجي في المجال التداولي الأمريكي، تتم وفق تفاعلات وضغوط واستشارات، وتبقى بالتالي أعقد بكثير من الصور النمطية الجاهزة التي تُروجها بعض الأقلام الشعبوية في المنطقة العربية (سواء تعلق الأمر بأقلام إسلامية حركية أو قومية)، فقد كان شبه مُجمع عليه من طرف الباحثين في«الشرق» و»الغرب» على حد سواء، أن الرئيس جورج بوش، كان يُمرّر بشكل أو بآخر، أطروحات تيار«المحافظين الجدد» (برموزه الكبار: دونالد رامسفيلد وبول فولفوفيتز ودانيال بيرل وديك تشيني وديفيد وورمسر..)، ومن باب التذكير بتشعب صناعة القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، ومدى تأثير مراكز«خزان الأفكار»، ليس صدفة، أن يسبق«إقالة» أو استقالة أبرز رموز هذا التيار، صدور مراجعات عن عرّاب الليبرالية الأبرز، فرانسيس فوكوياما دون سواه، وأحد أبرز المؤيدين لنظرية«الحرب الاستباقية»، والمُلقّب سابقا بـ»معبود المحافظين الجدد»، عندما شنّ هجوما أكاديميا رصينا على رموز التيار في كتابه«أمريكا على مفترق طرق»، معتبرا صراحة أنهم أساؤوا تطبيق مبادئهم في أفغانستان والعراق وداعيا إياهم إلى تصحيح الأفكار الاستراتيجية وبعض المفاهيم التي تبنتها إدارة بوش منذ أحداث الحادي عشر من أيلول.
وواضح أن بصمات الرئيس الأمريكي الحالي لا ترتبط فقط بالمنعطف الاجتماعي الكبير الذي صدر أخيرا مع مشروع توسيع وتعميم التغطية الصحية، ولا في الدفع النسبي بفتح ملف التحدي البيئي، وإنما عصفت أيضا بمعالم التدبير الاستراتيجي الأمريكي، من خلال الوثيقة الاستراتيجية سالفة الذكر، والتي تُعدّ انقلابا مفاهيميا وبالتالي ميدانيا، على مشاريع ومخططات سلفه في البيت الأبيض، وتيار«المحافظين الجدد»، وتُجسّد أيضا، تطبيقا نظريا، لورقة وممارسة النقد الذاتي التي تُميز العقل السياسي الغربي، في نسخته الأمريكية، والذي إن كان متشبثا بالأطروحات البراغماتية لوليام جيمس، فإنه متشبث أيضا بمخارج النقد الذاتي، كلما مرّ من أزمات مفاهيمية وتطبيقية على أرض الواقع. (على غرار ما شهدناه في طبيعة التعامل مع الأزمة الاقتصادية لعام 1929).

ضرائب اللغط حول«الحرب على الإرهاب»
معلوم أن«الحرب على الإرهاب» كانت توصف من قبل مراقبين أجانب قبل المراقبين العرب والمسلمين، وطبعا الإسلاميين، بأنها أشبه بـ»الحرب على الإسلام»، وعلى«قيم إسلامية معينة»، ومن هنا الفورة في الحديث عن تعديل المناهج الدينية والتعليمية في عديد من الدول العربية والإسلامية، إما من باب الرضوخ النسبي لضغوط الأسد الأمريكي الجريح، بعد صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن، وإما اقتناعا من طرف بعض صناع القرار في الوطن العربي والعالم الإسلامي، بحتمية فتح باب«الاشتباك الفقهي»، في معرض تنقيح الفقه الإسلامي السائد، وموازاة مع مشروع«الاشتباك الفقهي» ضد أدبيات الحركات الإسلامية«الجهادية» ذلك الذي انخرطت فيه جماعة«الجهاد» و»الجماعة الإسلامية» المصرية، وقد يكون كتاب«استراتيجية القاعدة: الأخطاء والأخطار» الصادر عن أبرز رموز«الجماعة الإسلامية»، أهم هذه الأعمال على الإطلاق.
وبالنتيجة، تسَبّبَت الأطروحة/ المشروع، في ظهور لغط مفاهيمي عالمي، في جميع بلدان المعمورة، وليس فقط في المجال التداولي الإسلامي العربي، بل إن مفكرين أمريكيين، من طينة عالم اللسانيات الألمعي نعوم تشومسكي، أو المؤرخ الراحل هوارد زن، كانوا يصفون اعتداءات تورطت فيها سياسات أمريكية سابقة، بأنها«اعتداءات إرهابية»، إلى درجة تأليف تشومسكي، قبل منعطف اعتداءات نيويورك وواشنطن للمفارقة، كتابا مثيرا للغاية يحمل عنوان:«قراصنة وأباطرة.. الإرهاب الدولي الجديد في العالم الواقعي»، (صدر الكتاب سنة 1991!)، وإصراره على تذكير المتتبعين في العالم بأسره، على أن الخوض الصريح في قلاقل اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر)، يتطلب العروج الشجاع على اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر)، من نوع آخر وأسبق وأفظع، تَمّت سنة 1973، عندما قاد الجنرال أوغستو بينوتشي، بدعم أمريكي، انقلابا أطاح فيه بالرئيس المنتخب الذي رفض الاستسلام قبل سقوطه شهيدا. إذا كانت الانتقادات الرصينة ضد توظيف مصطلح/ مشروع«الحرب على الإرهاب»، تصدر في المجالات التداولية الغربية، فلنا أن نتصور طبيعة الانتقادات التي صدرت في المجال التداولي الإسلامي العربي، ليس فقط من قبل الحركات الإسلامية، سواء كانت دعوية أو سياسية (أي حركات وأحزاب«الإسلام السياسي»)، أو«جهادية»، وإنما أيضا، من طرف مفكرين وباحثين، إلى درجة أن باحثا عربيا رصينا، متخصصا في التاريخ الحديث، مثل بشير موسى نافع، يُحرّر مقالا، ثلاثة أسابيع فقط بعد صدمة اعتداءات نيويورك وواشنطن، يرى من خلاله أنه إذا انطلقنا من دلالات«تقويض نشاطات جمعيات خيرية إسلامية كبرى، والضغوط الأمريكية في المس بمدارس وعلماء ومناهج دراسية في أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي.. فإن أحدا في واشنطن أو لندن عليه ألا يستغرب إن رأى المسلمون في هذا حربا على الإسلام». (صدر المقال في 29 أيلول (سبتمبر) 2001)، وقبيل أسابيع قليلة فقط من تاريخ صدور الوثيقة الاستراتيجية عن البيت الأبيض أخيرا، سيُحرّر نفس الباحث مقالا مؤرخا في 29 نيسان (أبريل) الماضي، تحت عنوان:«لماذا تحتاج أمريكا لأن تُغيّر سياستها تجاه العالم الإسلامي؟»، معتبرا، في تقاطع واضح مع أهم معالم«وثيقة النقد الذاتي الأوبامي»، أنه بغض«النظر عن جدل انحطاط القوة الأمريكية، الذي تحول مؤخراً إلى ما يشبه نبوءات العرافين، لم يعد أمام الولايات المتحدة من فسحة طويلة لإعادة النظر في استراتيجيتها العالمية. إن كان لا بد لواشنطن أن تواجه التحديات النابعة من الصعود الصيني وإعادة التوكيد على القوة الروسية، فلا بد أن تبدأ إدارة أوباما في إعادة بناء العلاقة مع المجال العربي والإسلامي، ليس فقط بحملة من الدبلوماسية العامة، ولكن أيضاً، وفي شكل أساسي، بتغيير ملموس في السياسات. تطوير علاقات إيجابية مع الدول والشعوب العربية والإسلامية، بل ربما محاولة تأسيس تحالف بعيد المدى مع العرب والمسلمين».

مقتضيات«حرب ضد شبكة بعينها»
بَدَهِي أن الانتقال الأمريكي الرسمي من الحديث عن«الحرب على الإرهاب» إلى«الحرب ضد شبكة بعينها»، يُفسر صمت المنابر الإعلامية الإسلامية الحركية عن دلالات هذا الانتقال، وذلك لاعتبارات عدة، نوجزها في نقطتين أساسيتين: ـ أولهما أنه يسحب البساط عن التوظيف الإسلامي الحركي لضبابية الحديث عن«الحرب على الإرهاب»، بالصيغة النقدية الصادرة عن تشومسكي الأمريكي وموسى نافع الفلسطيني، وبالصيغة الاختزالية التي جعلت من الشعار مرادفا للحديث عن«الحرب على الإسلام»، كما كان سائدا في أدبيات أغلب الحركات الإسلامية في الوطن العربي والعالم الإسلامي، كما أنه يُحدّد ويُدقّق بشكل واضح في المعني بالحرب الأمريكية (العالمية) المفتوحة، ونتحدث عن تنظيم«القاعدة» والحركات الإسلامية«الجهادية» الموالية تنظيميا أو إيديولوجيا للتنظيم«الأم»، بما يحيلنا على النقطة الثانية.
ـ لا يعتبر تنظيم«القاعدة» تهديدا ميدانيا مباشرا للولايات المتحدة الأمريكية، ولكنه يُجسّد نفس التهديد لأغلب الدول العربية والإسلامية (إذا استثنينا قلاقل علاقاته في الأوساط الأفغانية والباكستانية على الخصوص)، وثَمّة إجماع من لدن صناع القرار في الدول العربية والإسلامية، والفاعلين السياسيين/ الحزبيين، وأغلب الحركات الإسلامية المعنية بالمشاركة في العمل السياسي الشرعي (من قبيل موجة أحزاب«العدالة والتنمية» في تركيا والمغرب وماليزيا)، على رفض خطاب وأسلوب وأداء أتباع أسامة بن لادن، وهو ذات الرفض، الذي تُعبّر عنه وثيقة الاستراتيجية الصادرة عن باراك أوباما، بما يُمهد لتأسيس حد أدنى من الاتفاق على طبيعة العمل الإسلامي الحركي المرجو من قِبل جميع هؤلاء: الإدارة الأمريكية والإدارات الغربية من جهة، وصناع القرار العربي الإسلامي، والفاعلين الإسلاميين الحركيين من جهة ثانية.

تحديات ما بعد الانقلاب الأوبامي
يبقى أمام الإدارة الأمريكية الحالية جملة من التحديات التي ستتضّح من خلالها جدية وأحقية الحديث عن انتقال مفاهيمي وميداني من قلاقل«الحرب على الإرهاب» نحو آفاق«الحرب ضد شبكة بعينها»، وتتعلق على الخصوص، بمعالم تدبير صناع القرار في البيت الأبيض، لأهم القضايا العربية/ الإسلامية المصيرية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، مع استمرار التعنت الإسرائيلي، والتطورات الخطيرة التي كشفت عنها قضية الاعتداء الإسرائيلي على«أسطول الحرية» في آخر أيام أيار (مايو) الماضي. وهناك أيضا، طبيعة تدبير الملف العراقي الملتهب، والذي يتميّز بتشابك أمني واستراتيجي للطرف الإيراني، أحد أكبر المستفيدين من الإطاحة بالراحل صدام حسين، وتزداد تعقيدات هذا الملف، إذا أخذنا بعين الاعتبار، عدم الحسم النهائي في قلاقل الملف النووي الإيراني. وهناك طبعا الملف الأفغاني والباكستاني، وبدرجة أقل، قلاقل القرن الإفريقي، وتُعتبر مُجمل الملفات،«ابتلاءات» عملية أمام مستشاري الرئيس باراك أوباما، لتفعيل مقتضيات آخر الطبعات المنقحة والانقلابية لـ»وثيقة استراتيجية الأمن القومي».

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي