ماذا بعد الأزمة .. فكر جديد أم العودة إلى الرأسمالية القديمة؟ (2 من 2)

إن النظام الاقتصادي العالمي وإن كان له الفضل في حدوث انتعاش اقتصادي غير مسبوق, إلا إنه انتعاش غير متوازن وغير مستدام, لأن فيه كثيرا من الثغرات والأسس الخاطئة التي تجعل منه اقتصادا منفلتا ومخاطر بشكل كبير, ولا يستند في مخاطرته إلى أسس اقتصادية متينة ومنطقية. على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الزمن دأبت الحكومات والمجالس التشريعية في أغلبية دول العالم على مزيد من تحرير الاقتصاد, وكانت النتيجة تضاؤل دور الدولة في تسيير الاقتصاد لمصلحة سيطرة البنوك والشركات العملاقة, التي سميت قوى السوق. لقد صارت الرأسمالية المحررة من القيود والتوجيه هي التي تحكم الاقتصاد العالمي, أصبح لدينا اقتصاد عالمي لا تحدد قواعده الدول بل الشركات العملاقة وأسواق المال. منظر هذا النوع من الاقتصاد الحر, ميلتون فريدمان يقول: إن السوق ليس هو العدو وإنما العدو هو دولة الرعاية الاجتماعية.
هذا النوع من الاقتصاد, وهو الاقتصاد الحر, كانت له نتائج اقتصادية واجتماعية وخيمة, ففي دولة مثل ألمانيا, وهي الأغنى من بين دول أوروبا وأكبرها, نجد أنه تراجع فيها عدد الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى بمقدار 10 في المائة خلال سبع سنوات, ولعل أحد الأسباب الرئيسة المؤدية إلى ذلك هو البطالة, أو أن الشركات الكبيرة باعت عمالها وموظفيها إلى شركات تدفع أجورا أقل, وأن عدد الفقراء في ألمانيا وصل إلى 13 في المائة ولو تتوقف مخصصات الرعاية الاجتماعية لوصل هذا الرقم إلى الضعف. وازدادت الفوارق بين الأغنياء والفقراء في الدول الرأسمالية بشكل كبير, فهناك انخفاض في مداخيل الفئات المتوسطة وتقابله زيادة كبيرة في مداخيل شريحة الأغنياء. لعلنا نتذكر غضب الرئيس أوباما والشعب الأمريكي من الامتيازات الكبيرة التي يحصل عليها مديرو الشركات والموظفون الكبار, وتتكرر المسألة حتى في أثناء الأزمة, فلقد وصلت في بعض الأحيان النسبة القائمة بين دخل الفرد الواحد من رؤساء الشركات الأمريكية ودخل الفرد العادي لتبلغ أربعة آلاف إلى واحد, وفي هذا قفزة من النسبة المعتادة وهي 40 إلى واحد. إن مثل هذا الاقتصاد الذي ينتج كثيرا من المليارديرات, لكنه مقابل الملياردير الواحد ينتج الملايين من الفقراء, اقتصاد مصيره الانهيار, فلا يعقل أن تكون ثروة ألف ملياردير تعادل ثروة ما يملكه ثلاثة مليارات إنسان, وأن مدخول عشرة آلاف أسرة غنية يعادل مدخول 20 مليون أسرة فقيرة.
أما على المستوى الاقتصادي والمالي فيكفينا ما في هذا الاقتصاد من خدع وألاعيب, يكفينا أن نرى كيف تلاعبت البنوك بالقروض حتى جعلت منها أدوات استثمارية لتتراكم القروض فوق القروض من دون أن نرى لها أثرا في سجلاتها المالية حتى تم الانهيار. صناديق المخاطرة كان عددها لا يتجاوز الـ 100 في عقد الثمانينيات ثم ارتفع عددها إلى ثلاثة آلاف في التسعينيات ووصل عددها إلى عشرة آلاف في مرحلة ما قبل الأزمة, هو الذي كان من الأسباب الرئيسة التي دفعت بالاقتصاد العالمي إلى الوقوع في الأزمة. ومثال آخر هو صندوق المخاطرة المسمى ''إل تي سي إم'', الذي كان يحوي ودائع بقيمة أربعة مليارات دولار فقط, لكنه استطاع أن يحصل على قروض قيمتها أكثر من 120 مليار دولار ومن ثم استخدم هذه القروض في أدوات وأوراق مالية تصل قيمتها إلى أكثر من تريليون ونصف تريليون من الدولارات, فمع هذا الوضع كيف لا تضيع أموال المستثمرين مع أول انهيار لمثل هذا الصندوق؟ فكم من الأموال ضاعت بانهيار مثل هذا الصندوق وأمثاله الذي يستدرج الناس إليه بالوعود بأرباح لا تدرها حتى تجارة المخدرات؟
هل ستعيد أزمة اليونان العالم من جديد إلى أجواء المطالبة بفكر جديد للاقتصاد العالمي بعد أن بدأ العالم ينشغل بتباشير الخروج من الأزمة أم سيعود للعمل بالقواعد والأسس السابقة نفسها فبعد الأزمة وفي مرحلتها الأولى سمعنا جورج سورس يصف الاقتصاد العالمي بأنه كان فقاعة عظيمة وانفجرت الآن. وسمعنا رجل الأعمال المشهور ورن بوفيت يقول لا يمكننا السكوت على أمور أدت إلى مغامرات مالية انتهت إلى تدمير مئات آلاف من فرص العمل وتدمير فروع الاقتصاد الإنتاجية. أما الرئيس الفرنسي فقد قال إن هناك فزعا متزايدا من العولمة. وهناك إحصاءات ذكرها كتاب ''انهيار الرأسمالية'' تقول إن 90 في المائة من الناس في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا يتمنون تدخلا كبيرا من دولهم لحماية الاقتصاد الوطني, ودراسات أخرى تقول إن أكثر من 70 في المائة من الناس يعتقدون أن توزيع الثروات في بلدانهم لا يتسم بالعدالة.
أزمة الدول مع ديونها, وأزمة البنوك والأفراد مع الديون في المرحلة الأولى من الأزمة, ونتائج هذا الاقتصاد المنفلت من أي قيود في تآكل الطبقة الوسطى وزيادة عدد الفقراء وتراجع الحماية الاجتماعية جعلت العالم فعلا يتطلع إلى اقتصاد من نوع جديد ومنهج فكر اقتصادي جديد فيه رحمة أكثر, وفيه مساواة أكبر في إطار توزيع الثروات, وفيه شعور بالأمن والاستقرار أكثر لوجود جهات ومؤسسات عامة تشرف على مسيرة الاقتصاد والأسواق المالية. إن في هذه الأزمة وما أنتجه هذا الاقتصاد الحر دروسا كبيرة علينا نحن الدول الساعية إلى النمو والتطور أن نستفيد منها حتى لا ننتج لأنفسنا تنمية مشوهة, تنمية يزداد فيها الأغنياء ثروة ويزداد فيها الفقراء عددا ونوعا. هل ستتحقق أمنية الشعوب أم أن رأس المال سيبقى الأقوى وسيمتص الأزمة وغضب الشعوب ولنعود من جديد الى الاقتصاد نفسه ولينتظر العالم من جديد حدوث أزمة جديدة قد لا نعلم كم هي كبيرة؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي