تكييف الحكم القضائي
تحدثنا في المقال السابق عن تسبيب الأحكام القضائية وارتباطه المؤثر في النتيجة، وضرورة توافر الحد الأدنى للأسباب المعتبرة في قيام الحكم وإلا اعتبر الحكم باطلاً فنياً من الناحية القضائية.
ونظراً لوجود خلط كبير ولبس في الوسط القضائي وخارجه بين التسبيب القضائي والتكييف، أردت في هذا المقال إعطاء مفاهيم رئيسة للتكييف القضائي وتمييزه عن التسبيب.
ويقصد بتكييف الحكم القضائي بوجه عام إعطاء النزاع المطروح على القاضي وصف شرعياً أو قانونياً يسمح بإعمال قاعدة شرعية أو قانونية معينة عليه. فالتكييف عمل ذهني يقوم خلاله القاضي بتقديرات وعمليات منطقية لحل قضية قياس منطقي المقدمة الكبرى فيه هي القاعدة القانونية, والمقدمة الصغرى فيه هي الوقائع، ويقوم القاضي أو المحامي برد الوقائع المادية إلى حكم الشرع أو القانون وذلك بإرساء القواعد المقررة على ما يثبت من وقائع الدعوى.
ومن خلال ما سبق يتضح أن التكييف القضائي يتطلب شرطين لازمين:
الشرط الأول: أن ينص الشرع أو القانون على إنه ما إذا توافرت واقعة مجردة لها خصائص معينة فإنها تندرج تحت أحد الأوصاف التي يعرفها الشرع أو القانون ويرتب عليها أثراً معتبراً معيناً.
الشرط الثاني: أن يعلم القاضي أن الواقعة المعروضة عليه تتوافر فيها خصائص الواقعة المجردة التي أضفى عليها الشرع أو القانون وصفاً قانونياً معيناً والشرط الأول ليس من عمل القاضي وإنما هو عمل المشرع أو المنظم، وأما الشرط الثاني فهو من عمل القاضي.
وعليه فإن النصوص الشرعية أو النظامية هي التي تنشئ التكييف القانوني، أما القاضي فإنه يعلن عن هذا التكييف.
وبعد إيضاح مفهوم التكييف ودور القاضي أو المحامي فيه، نوضح الآن الفرق بين التكييف والتسبيب، فالتكييف يكون سابقاً في الوجود قبل التسبيب ومستقلاً عنه من حيث الماهية فالتكييف هو إعطاء الوقائع وصفها القانوني، وعندما يقوم القاضي بـإعطاء الوصف القانوني للواقعة يقوم بتسبيب ذلك, وبالتالي فإن التسبيب يتضمن التكييف وبقدر ما يكون الحكم مسبباً بقدر ما تسهل معرفة تكييف الدعوى الذي وقع عليه اختيار القاضي.
ومن المسائل المهمة المتعلقة بذلك أن سلامة التسبيب لا تؤدي حتماً إلى سلامة وصحة التكييف القانوني، فقد تبنى أسباب الحكم بناءً قانونياً سليماً، ومع ذلك تنطوي على تكييف قانوني خاطئ. فإذا كان الحكم صائباً في منطوقه وتسبيبه ومعيباً في تكييفه للواقعة فإن الرقابة من طرف محكمة الاستئناف تنصب على التكييف وتصححه دون المساس بالمنطوق.
وفي حالة صدور الحكم مطابقاً للقانون من حيث تكييف الوقائع المنتجة في النزاع ولكن التسبيب الذي يرد في الحكم لا يتضمن ذلك التكييف، فــإن محكمة الاستئناف يستحيل عليها مراقبة حسن تطبيق القانون وعليه فـإن التسبيب هو الذي يكشف عن التكييف ويتضمنه، ومن هنا كان الارتباط وثيقاً بينهما.
من الجدير ذكره، أن التكييف يعد من مسائل القانون لصلته الوثيقة بـأعمال القاعدة القانونية، وهناك من يرى أن التكييف لا يعتبر من مسائل القانون ولا من مسائل الواقع لأنه عملية ذهنية تقارن بين مسائل الواقع من جهة ومقصود القاعدة القانونية من جهة أخرى، للوصول إلى تقرير وجود التطابق بينهما أو عدمه، وبالتالي إلى إعمال أو إهمال حكم القاعدة القانونية، وعلى هذا الأساس يرى أن التكييف ما هو إلا وسيلة أو صياغة فنية لازمة لإعمال القانون.
ويبدو أن هذا الرأي ينظر إلى التكييف من خلال وسيلة القاضي في الوصول إليه لا من خلال النتيجة التي يصل إليها القاضي وهي إعمال القاعدة القانونية، فالتكييف لا يعد كذلك إلا عند اختيار القاضي للقاعدة القانونية التي يرى أنها تنطبق تماماً على الواقعة المعروضة عليه، وعليه فإن إسباغ الوصف القانوني على الواقعة ما هو إلا مسألة من مسائل القانون.
من جهة أخرى، فإن العملية الذهنية التي يقوم بها القاضي للوصول إلى التكييف الصحيح لا تعتبر في حد ذاتها تكييفاً إلا إذا وصل من خلالها القاضي إلى النتيجة، وهي إكساء الواقعة وصفها القانوني، ويتضح من خلال ما سبق أن التكييف يتضمن أمرين متلازمين: الأول النشاط الذهني للقاضي، والثاني اختيار القاعدة القانونية المنطبقة على الواقع.
ولو أن شخصاً تقدم للمحكمة التجارية ممثلة في قضاء الدوائر التجارية من أجل طلب حقوق مالية لعقد مع شخص لم يسم فيه الربح أبداً، فالقاضي التجاري إما أن يصبغ على العقد وصف المضاربة، وبالتالي يفرض له أجرة المثل وهذا أقرب للحقائق الشرعية والنظامية، وإما أن يجعل هذا العقد من قبيل الإجارة، ويجعل العقد مدنياً ويحكم بعدم الاختصاص لأنه عقد عمل، وكذا التظلم من القرارات المتصلة بالعقود الإدارية فتكييفها بأنها قرارات متصلة بالعقد يجعلها تخضع للقواعد الشكلية المختصة بالعقود في المدد النظامية وهي خمس سنوات من نشوء الحق بخلاف القرارات الإدارية المنفصلة التي تحدد مددها بشهرين بعد التظلمات الإدارية. فالتكييف القضائي يحدد مسار القضية ومعالم أسباب الحكم فيها.