تسبيب الأحكام القضائية بين الواقع والمأمول
التسبيب من الناحية المنطقية عبارة عن مقدمات تؤدي إلى نتائج محددة تترتب عليها، ولكي تأتي هذه النتائج صحيحة ومطابقة للواقع ينبغي أن تكون المقدمات صحيحة أيضاً، وبالتالي تكون الأسباب المنطقية والسائغة هي الأساس الذي تستند إليه النتيجة.
والتسبيب عند جمهور الفقهاء من معنى السبب، وهو الأمر الظاهر المضبوط الذي جعله الشارع إمارة لوجود الحكم, فهو ما يظهر الحكم به وعليه, فإذا كان السبب تاماً ويقينياً كان المسبب عليه والمتمثل في منطوق الحكم صحيحاً. فالقاضي يميز الأسباب الواقعية والشرعية التي دفعته إلى الحكم الذي انتهى إليه.
وينبني على ما تقدم اشتمال الحكم القضائي على عرض مجمل لوقائع الدعوى وطلبات الخصوم وخلاصة موجزة لدفوعهم ودفاعهم الجوهري وأسباب الحكم ومنطوقه وصياغة ذلك بأسلوب يعبر عن المضمون الحقيقي، وتظهر أهمية التسبيب في الأحكام القضائية باعتباره وسيلة الخصوم للتحقق من عدالة الأحكام التي تصدر في حقهم, فهو ضمان لعدم القضاء بناء على هوى أو ميل شخص من جانب القاضي، مما يشكل قيداً على سلطة القضاء ويدفع القضاة إلى الحرص والفطنة عند إصدار الأحكام، والتسبيب ليس إجراء شكلياً يقوم به القاضي, وإنما هو بيان للنشاط الإجرائي الذي حمل القاضي إلى الحكم الذي انتهى إليه. فهو واجب إجرائي يلتزم به ناظر القضية، وذلك ببيان اقتناعه الموضوعي فيما يتصل بفهمه للواقع والأدلة وبيان أسباب رده على الطلبات المهمة والدفوع الجوهرية التي تقدم إليه، وذلك حتى يتمكن الخصوم وتتمكن محاكم الاستئناف من فرض رقابتها على ما انتهى إليه الحكم, ويترتب على هذا المفهوم للالتزام بالتسبيب النتائج التالية:
أولاً: إن القاضي عندما يتصدى لنزاع معين فإن ثمة اعتبارات تلعب دوراً في اختياره للحل المناسب, منها ما ينطوي على جانب نفسي ومنها ما ينطوي على جانب موضوعي. والجانب النفسي يتمثل في الشعور الداخلي لدى القاضي الذي أدى به إلى اختيار قضاء الحكم، وهذه العوامل لا توجد في عالم الواقع بل تستقر في عالم اللاوعي من حيث إنها أحاسيس نفسية وليست إثباتات مادية. أما الجانب الموضوعي فقوامه الاعتبارات الواقعية والقانونية التي دفعت بالقاضي إلى إصدار حكمه على هذا النحو، والقاضي لا يلتزم ببيان اعتقاده الشخصي المتمثل في الجانب النفسي فيما يتصل بتقديره للأدلة واطمئنانه إليها، لأنه يصعب عليه صياغة أسباب هذا الاعتقاد. ولكنه يلتزم ببيان مصادر اقتناعه.
ثانياً: إن التسبيب ينصب على تقديم أسباب ومبررات للجانب الواقعي من الحكم, وبيان الأسانيد القانونية لتبريره، والجانب الواقعي يتعلق بوقائع الدعوى واستخلاص الصحيح منها بناءً على أدلة قانونية ومنطق سليم, ومن واقع نابع من أوراق الدعوى، وينبغي أن يكون هذا الاستخلاص مسبباً تسبيباً كافيا، أما الجانب القانوني فيعني بيان السند القانوني والحجج القانونية التي يصدر القاضي حكمه تطبيقاً لها بعد تكييفه لوقائع الدعوى وبالنسبة للأسباب الواقعية فإنه يشترط أن تكون كافية لحمل منطوق الحكم وإلا كان الحكم معيباً بعيب القصور في التسبيب. أما عدم كفاية الأسباب القانونية فلا يعد عيباً في النشاط الإجرائي للقاضي فيما يتصل ببحثه بوقائع الدعوى والأدلة التي تثبتها أو تنفيها ما دامت النتيجة التي يصل إليها الحكم تتفق مع التطبيق الصحيح للقانون, وبالتالي فإن محكمة الاستئناف ترفض نقضه وتكتفي في هذه الحالة بتصحيح الخطأ, والسبب في ذلك يرجع إلى أن الأسباب الواقعية هي التي تتمكن المحكمة العليا من خلالها من التحقق من أن القانون طبق تطبيقاً صحيحاً وبالتالي فإن قصور الحكم عن إيراد ما ثبت من وقائع الدعوى وظروفها وملابساتها لا يسمح باستخلاص الوقائع الأساسية لتطبيق القانون، مما يعجز المحكمة العليا عن التحقق من صحة تطبيق القانون، لأنه لا يمكن التحقق من مدى سلامة النتيجة التي يصل إليها القاضي بالنسبة للوقائع إذا لم يكن الحكم مسبباً، أما قصور الحكم في إيراد الأسباب القانونية أو الخطأ في بعضها فإنه لا يعجز المحكمة العليا في القيام بهذه الرقابة إذ تستطيع متى رأت الحكم صحيحاً من حيث النتيجة أن تستكمل الأسباب القانونية اللازمة وأن تصحح ما تجده خاطئاً منها.
ثالثا: إنه لا عبرة بالخطأ في التسبيب إذا توافرت في الحكم الأسباب الكافية لتبريره فإذا كانت الأسباب فيها زيادة على الحد الأدنى فلا يعاب الحكم بالخطأ في الأسباب الزائدة, وهذا يعني أنه لا يعتد بالخطأ في التسبيب لذاته وإنما يعتد به إذا كان مؤثراً في منطوق الحكم, ولم تكن هناك أسباب أخرى معتبرة تدعم النتيجة.
رابعاً: إن اعتبار التسبيب واجباً إجرائياً يجعل الحكم المجرد كلية من أسبابه حكماً باطلاً وليس منعدماً، فعدم تسطير القاضي أية أسباب لحكمه يعد خطأً إجرائيا يتعلق بسلوك القاضي في التعبير عن النشاط الإجرائي, فحيث ينعدم التسبيب يفقد الحكم مقوماته كحكم, ويكون باطلاً فلا محل لبحث مضمونه أو قيمته الموضوعية.
وهذا ينطبق على بعض الأحكام القضائية وخاصة في القضاء العام التي تُسبب بـ (وثبت لدي ....)
خامساً: إن الالتزام بالتسبيب وفقاً للمفهوم السابق يتطلب من القاضي أن يتأنى ويتثبت في فحصه لوقائع الدعوى حتى يتهيأ له وجه الصواب فيها فلا يتعجل القاضي في الحكم إذا لم يتبين له الأمر بل عليه أن يتفكر فيه حتى يستدرك وجه الحق بالتأمل والمشورة فيبني حكمه على الجزم واليقين لا على الشك أو الظن والاحتمال.
سادساً: إن رقابة محاكم الاستئناف على التسبيب تعد رقابة على مضمون الاقتناع الموضوعي, وهي في الوقت ذاته أيضاً رقابة على منهجه في الاقتناع الذي انتهى به إلى الحكم الذي أصدره.
ومن خلال ما سبق يمكن الطعن في أي حكم متى ما كان يفقد مقوماته المعتبرة, فكيف إذا كان منعدم الأسباب!!