استيفاء الديون بإلزام المدين على التكسب
يعتبر استيفاء الديون من المسائل الشائكة عملياً نظراً لتورط أغلب الناس تحت كاهل الديون مع انعدام الضمانات غير الرواتب والأجور. وتنظيم استيفاء الديون يحصل بترتيب وتنسيق البنية التشريعية والتنفيذية المفضية إلى وصول الدائن إلى حقه وهذا يضفي على التعاملات الفردية والمؤسسية جواً من الثقة والأمان وهما ركيزتان أساسيتان لتداول المال في المجتمع، حيث إن الدائن في ظلهما يضمن أن ما يبذله من مال أو عروض سيعود إليه ولن يتمكن المدين إذا كان فيه اعوجاج طبع أو ضعف نفس أن يضيع عليه حقه.
واستيفاء الديون تختلف أحواله نظراً لاختلاف التوثيق ووجود الديون المحالة سواء كانت عن طريق الشيكات أو الكمبيالات، وأيضاً اختلاف أسلوب الاستيفاء سواء كان جبرياً بواسطة القضاء أو دون حكم قضائي.
ومن المسائل المهمة التي تتطلب دراسة فقهية مقاصدية مرتبطة بالمصالح الحيوية والواقعات الفعلية مسألة إجبار المدين على التكسب لسداد دينه سواء كان المدين مسجوناً بسبب الدين أو كان معسراً طليقاً.
وفي الفقه الإسلامي هناك اتجاهان:
الاتجاه الأول: يرى جمهور العلماء عدم إجبار المدين على التكسب حتى لو كان قادراً عليه، والاتجاه الآخر: وهو المشهور في مذهب الحنابلة وهو قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - واختاره بعض الشافعية والحنفية أنه يُلزم المدين إذا كان قادراً على التكسب من أجل سداد دينه فالقاضي يلزم المفلس القادر على العمل، خاصة إذا كان يتقن حرفة ما أو باستطاعته تعلّمها ويستند أصحاب هذا الرأي إلى أن تقاعس المدين القادر على التكسب يعد ظلما وهو نوع من المماطلة وإذا كان يجب بيع مال المدين لسداد دينه فكذلك إيجار منافعه من أجل سداد دينه.
وعند النظر في شريحة كبيرة من أصحاب الدخل المحدود في السجون والذين انشغلت ذممهم بديون قادرين على سدادها إذا أجبروا على العمل لسدادها ومع ذلك نجد أن هذه المشكلة لم تعالج بطريقة شمولية تتضمن النظرة الفقهية التشريعية مع النزعة الأمنية التحفظية، التي تتمثل في التنسيق بين مكاتب العمل والقطاعين الحكومي والخاص وإدارة السجون بحيث يلزم المسجون على العمل من أجل سداد دينه بدل البحث عن صك إعسار يسهل عليه الخروج فلا الدين تم سداده ولا المدين برئت ذمته.
ومساعدة المحكوم عليه بديون مالية نقدية أو منقولات ذات قيم مالية التزام يقع على أصحاب القرار المعنيين، وذلك لكون المحكوم عليه إما مواطن أو مقيم وهذه الصفة يلازمها توفير سبل العيش الشريف وتبرئة الذمة من الالتزامات المالية استناداً إلى القواعد الشرعية وأنظمة الدولة المرعية وعلى رأسها النظام الأساسي للحكم، كما أنها أيضاً مساعدة لأصحاب الحقوق على استرداد أموالهم، خاصة أن المحكوم عليهم بالحقوق المالية يشكلون قوة إنتاجية كبيرة يجب على الدولة الاستفادة منها باستغلالها في مجالات العمل لما يحققه ذلك من الخير للمجتمع بأسره. ويمكن أن يستفاد من التجارب المعمول بها في الدول الأخرى وهو ما يعرف بأنظمة السجون المفتوحة، التي يلزم فيها السجين بالعمل مقابل السداد أثناء فترة محكوميته ويمكن مما سبق أن نستخلص أهمية إلزام المدين بالعمل من أجل سداد دينه وتوفير الإمكانات كافة المساعدة لذلك وهذا يساهم عملياً في معالجة مشكلة استيفاء الديون وتحجيم مساحات التداين الواسعة من قبل الأفراد والمؤسسات سواء كانت عن طريق القروض، أو البيع بالآجل أو البيع بالتقسيط وعقود الاستصناع وغيرها من عقود المداينات.
والنظرة الشمولية في معالجة مشاكل استيفاء الديون تتطلب أن تكون إدارة السجون جزءًا من النظام العدلي الجزائي بحيث تقوم إدارة السجون بإمداد المحاكم بالاقتراحات والمعالجات المناسبة عند تنفيذ عقوبات السجن في حالات العجز عن السداد، ومن المبادئ الأساسية للسجون مبدأ العدل واحترام الذات الإنسانية واعتبارها قابلة للتطور والاستصلاح والوفاء بالتزاماتها وهذه النظرية الشمولية تساعد على الفكرة الأساسية للموضوع وهي استيفاء الديون بإجبار المدين على التكسب واستقطاع كامل الأجر أو بعضه لمصلحة الدائن.
وقبل هذا وبعده التطبيق الذاتي والعملي من قبل المدين لقوله - صلى الله عليه وسلم - ''من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله'' رواه البخاري.