لوبي استيراد القمح

من عجائبنا تطبيق سياسة ''الباب اللي يجيك منه ريح سده واستريح'' بحذافيرها في زوايا متعددة. ومن يتمعن فيما حدث لسياسة إيقاف زراعة القمح لا بد أن يتساءل: لماذا لم تتم معالجة الأضرار السيئة أو غير المقصودة الناتجة عن دعم زراعة القمح، بدلا من القضاء عليه بشكل تدريجي متسارع؟ لماذا حدث ما حدث لزراعة القمح مع أن هناك أسبابا وجيهة تدعم ضرورة استمرار الدعم الحكومي للمزارعين الصغار؟ من البدهي أن كل قرار وراءه من ينافح عنه عبر تكثيف الجهود والأسباب والحجج لاتخاذه. فمن يا ترى كان وراء قرار إيقاف زراعة القمح؟ لا يعدو الأمر - في تقديري - أن يكون إما مستفيدا وإما ناصحا، وإلا عد الأمر عبثا. وربما يكون الأمر خليطا بين الاثنين، أو منتفعا لبس ثوب الناصح.
فإن كان ناصحا - وهو الأقرب إلى قلبي- فنصيحته وحرقته وهمه على الشأن العام لا تبرر السياسات المتخذة إذا لم يكن مع النصيحة حقائق وأسباب موضوعية تطغى في الميزان على كل شيء سواها. أما إن كانت نصيحته ـ حتى إن كانت كتبت بدم القلب - لا تحمل بين ثناياها أوزانا ثقيلة تميل بكفة الميزان، فيجب ألا تكون تلك النصيحة المحور الذي يوجه السياسة الزراعية. ما يبدو من استقراء الأحداث المتعاقبة، أن النصيحة تشفق على وضع الماء في المملكة بسبب استنزاف زراعة القمح، وجعلتها نصب عينيها ولم تعد ترى أي شيء آخر, لأنها –وفقا لنظرة الناصح - هي السبب الرئيسي لمشكلة المياه، وأنه يجب أن تعالج المشكلة حتى لو كان هناك ضحايا أبرياء (متغاضية عن إنتاج اللحوم والدواجن والفواكه والألبان والأعلاف وكلها مصادر مستنزفة للمياه بشراهة لا تقل عن القمح).
كل التقدير لهذه النصيحة وأعلم علم اليقين أنها نبعت من قلوب مخلصة تخفق بمحبة هذا البلد؛ لكنها لعلها لم تحط بالصورة كاملة. فكما تعرضت في الأسابيع الماضية فالإيقاف لا يستند إلى حجج قوية، فالمياه لا تزال تستنزف عبر التحول إلى زراعة الأعلاف، وثانيا، مخزون المياه وفقا للأرقام المعلنة وفير- وأمطار بيشة كافية لتغذية المملكة لو طورت آليات الاستفادة من مياه الأمطار بدلا من الاستمتاع بمنظرها وهي تهرب إلى البحر، وثالثا الجهات الحكومية ليس في جعبتها دراسة علمية تبرر الذعر المائي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، التوفير المالي الناتج من إيقاف زراعة القمح لا يشكل لحاله مبررا كافيا ، فالوفورات النقدية في الأعراف الحكومية ليست هي بوصلة القرارات الحكومية، كما أن هناك منافع استراتيجية من زراعة القمح - اجتماعية، تنموية، ديموغرافية، أمنية- وعليه فزراعة القمح إن لم تكن محبذة، فهي على أضعف الإيمان شأن غير مضر, خاصة إذا تم ترشيدها عبر منع المزارعين الكبار من الدخول فيها. وعليه، على افتراض أن إيقاف زراعة القمح تم اتخاذه بناء على نصيحة مخلص يبحث عن المصلحة العامة، فالنتائج المتحققة على أرض الواقع إلى اليوم لا تنبئ عن بلوغ النتائج المستهدفة.
أما إن كان القرار تم اتخاذه لأن هناك منتفعين من هذا القرار فيجب أن يتم النظر في هذا النفع؛ فإن كان فيه خير على الوطن فبها وأنعم، وإن كان شره أعظم من نفعه، فتجب مراجعته. ولنعرف كيف نقيم النفع، دعونا نتعرف على أبرز المرشحين المنتفعين بهذا القرار وهم إما مستوردو القمح، أو المستثمرون في قطاع زراعة القمح في دول خارجية، ودلالة ذلك تتضح من زيارة عضو كونجرس أمريكي لمؤسسة الصوامع في الرياض في تاريخ 13/4/1430 هـ (الاقتصادية 5659)، ومن الطريف أن أمريكا التي تحارب الإعانات تدعم زراعة القمح بمبلغ يجاوز مليار دولار في عام 2006 فقط، من بينها برامج شراء مباشر وقروض مجانية، وتدعم القطاع الزراعي بمبلغ يتجاوز 20 مليارا سنويا في برنامج اسمه توزان الدخول الزراعية (والإعانة العالمية السنوية لزراعة القمح تقدر بمبلغ 360 مليار دولار). وإذا عرفنا أن المملكة فعلا بدأت في الاستيراد من كندا، وأن أحد المسؤولين صرح بأن الملمكة ستستورد ثلاثة ملايين طن من القمح (سعر الطن 350 دولارا) بحلول عام 2016، فلا بد أن مزارعي القمح في كل أنحاء العالم متشوقون لهذه الكمية المغرية، وهذا يعني أن المملكة ستصرف مليارات الريالات خارج حدودها. هذه المبالغ ستصب في محافظ استثمارية خارجية – أو داخلية مستثمرة خارجيا - وبالتالي فمن الطبيعي أن ينافح هؤلاء عن سياسة إيقاف زراعة القمح السعودي، بشكل مباشر أو غير مباشر عبر تكثيف الرعب المائي وتبسيط ـ وربما تجهيل - كل العوائد المترتبة على زراعة القمح محليا حتى نتأقلم على فكرة استيراد القمح من الخارج.
السؤال هو: أيهما أجدى زراعة القمح محليا وإنفاق المليارات داخليا، وبناء اقتصاد محلي وأمن غذائي وتنوع ديموغرافي وإيجاد فرص عمل متعددة مباشرة وغير مباشرة، وإنماء تنموي للهجر والبوادي، وإعمار الأرياف والقرى بدلا من تجفيفها وتهجير أهاليها وزيادة الضغط على المدن الرئيسية بمساوئه اللامنتهية، ومنافع بيئية لا تعد ولا تحصى، كل هذه المنافع تصب في جيوب الصغار من المزارعين، أم استيراد القمح من الخارج، وإعمار سهول ''تكساس'' وفيافي ''ايوا''، بحجة أن الماء في المملكة سينضب - دون دراسة - مع أن تحلية مياه البحر في تقدم تقني هائل وبتكاليف اقتصادية مغرية، أقل من تكاليف استخراج المياه الجوفية - ويرمى آلاف الأمتار المكعبة من المياه المحلاة في البحر لانعدام إمكانية نقله - ومع أن مياه السيول تقدر بـ 127 مليار متر مكعب وفقا لإحصائيات من جامعة الملك سعود، ولو أنفق على طرق الاستفادة من مياه التحلية ومن مياه السيول عُشر المبالغ المزمع استيراد القمح بها، لأمكن التعامل مع قضية الماء بشكل يروينا لمئات السنين، ويروي عروق زراعة القمح من عطاء الرحمن الذي لا ينضب. يقول عز وجل: ''وأنزلنا من السماء ماء بقدر''، ''وكل شيء عنده بمقدار''. أترك الإجابة لكم فلن ينالني من المليارات هللة، وليس لي في الزراعة ناقة ولا جمل، وإنما هي أمانة قلم ونصيحة محب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي