أهمية تقرير الخبرة الفنية في منازعات المشاريع

الحمد لله وبعد فإن هذا المقال يهدف إلى التعريف بتقرير الخبرة الفنية وأهميته في فض المنازعات في عقود مشاريع البناء والصناعة ففي أغلب المشاريع على اختلاف أنواعها وأحجامها وتكلفتها تظهر خلافات بين صاحب العمل والمقاول ومثال ذلك الخلافات على كميات الأعمال المنفذة ومواصفات التنفيذ ومدة التنفيذ وجودة التنفيذ ونحو ذلك فيحمل كل طرف المسؤولية المالية الناتجة عن الخلاف الطرف الآخر وذلك حسب فهمه لبنود العقد وتفسيره لواجبات والتزامات وحقوق أطراف العقد وحسب تفسيره للمواصفات والرسومات وجداول الكميات وطرق القياس والمحاسبة. ومع أن معظم تلك الخلافات يتم حلها بالتفاوض المباشر بين صاحب العمل والمقاول إلا أن بعض تلك الخلافات قد تستعصي على المتفاوضين فيصلوا إلى طريق مسدود لا يمكن بعده حل النزاع إلا عن طريق القضاء أو التحكيم أو ما يسمى بالوسائل البديلة لحل المنازعات مثل الوساطة والصلح.
وأياً كانت الوسيلة التي يلجأ لها المتخاصمون فقد يحتاج الأمر إلى الاستعانة بطرف ثالث يوضح لهيئة القضاء أو هيئة التحكيم أو الوسيط أو المصلح تفسيره المجرد والمحايد لنقاط الخلاف ويعطي رأيه الفني في حقوق والتزامات أطراف العقد. هذا الطرف هو ما يسمى بالخبرة الفنية وما يقدمه للجهة الناظرة في الخلاف هو تقرير الخبرة الفنية. في مثل هذا التقرير يدرس الخبير مطالبة كل طرف ويختبرها على عدة محاور بشكل تسلسلي ليرى إن كانت تحقق المتطلبات التالية:
أولاً: أن تكون المطالبة مقدمة من أحد أطراف العقد أو من ينوب عنه بموجب وكالة شرعيه فإن كان طالب التقرير غير ذلك فلا يحق للخبير قبول إصدار مثل ذلك التقرير وعليه الامتناع عن ذلك ومثال ذلك أن يكون المتقدم بالمطالبة من أقارب أو موظفي صاحب العمل أو مقاول باطن لدى المقاول الرئيس بالعقد دون وجود وكالة شرعية تجيز التقدم بتلك المطالبة.
ثانياً: وضوح المطالبة أي أن المطالبة يجب أن يعبر عنها بمبلغ مالي محدد يرى المطالب أنه حقه العادل شرعاً ونظاماً في التعويض عن تكلفته أو خسارته أو تضرره الناتج عن مخالفة الطرف الآخر للعقد ويشرح ماهية تلك المخالفة والسند النظامي الداعم لمطالبته من بنود العقد أو من النظام العام الذي يحكم مثل تلك المخالفات أو أن تكون المطالبة مبنية على الضرر الحاصل للمطالب نتيجة تصرف أو عدم تصرف الطرف الآخر بما لا يندرج صراحة أو ضمناً في العقد الخاص أو النظام العام فإن كان الأمر خلاف ذلك فيتحتم على الخبير إعادة المطالبة إلى مصدرها للاستيضاح ولا يجوز للخبير بأي حال من الأحوال أن يتصرف كأنه وكيل لصاحب المطالبة فيفترض ما يكمل به النقص من المعلومات، التي تعتبر ضرورية لتوضيح وتحديد المطالبة أي قيمتها وما يقابلها من عمل والدليل النظامي على أحقية المطالب بها ومثال ذلك أن يتقدم المقاول بمطالبة بقيمة مائة ألف ريال مقابل أعمال لياسة إضافية لكميات تزيد على مقايسة العقد ويرفض صاحب العمل تسديدها على أساس أن المقاول لم يحسن إنهاء وتكحيل أعمال البلوك في بعض الحوائط بالشكل المناسب للدهان المباشر فوقها مما استدعى تنفيذ أعمال اللياسة لتلك الحوائط. ومثال ذلك أيضاً أن يتقدم صاحب العمل بمطالبة بقيمة مليون ريال مثلاً بسبب تأخر المقاول عدة أشهر في تسليم مشروع استثماري كفندق أو مدينة ألعاب أو نحو ذلك بينما يرفض المقاول المطالبة على أساس أن صاحب العمل هو المسئول عن التأخير لعدم اعتماده للعينات والرسومات التفصيلية في موعدها.
ثالثاً: النظر في أساس المطالبة إن كانت مبنية على مخالفة شرط من شروط العقد سواء كان شرطاً صريحاً معبراً عنه بالأحرف والكلمات والأرقام أو كان شرطاً ضمنياً لا يحتاح إلى التعبير عنه بالأحرف والكلمات والأرقام ومثال ذلك أن يتقدم صاحب العمل بمطالبة بالتعويض على أساس أن المقاول قد تعاقد من الباطن دون أخذ موافقة صاحب العمل على تنفيذ بند معين مما يخالف بنداً محدداً بالعقد ويترتب عليه شرط جزائي بمبالغ محددة بالعقد مثل خصم 20 في المائة من قيمة البند أو نحو ذلك.
رابعاً: النظر بعد ذلك في شروط العقد المتعلقة بالمطالبة واختبار المطالبة من حيث مخالفة أو مطابقة تلك الشروط فإن ثبت له مطابقة المطالبة لشروط العقد وجب عليه إقرارها والتوصية بالتعويض عنها حسب ذلك الشرط. أما إذا كانت المطالبة مخالفة لشروط العقد فيجب على الخبير رفضها والتوصية بعدم التعويض عنها علماً بأن شروط العقد ذاتها تخضع للنظام العام المتعلق بالحالة فلا يعتد بالشروط المخالفة للنظام العام.
خامساً: بالنسبة للمطالبات التي لم يشر لها بالعقد الخاص بالمشروع أو تم إدراج شروط منظمة لها بالعقد ولكنها مخالفة للنظام العام أو شروط ينقصها الوضوح في الماهية أو الآلية فيتم الرجوع إلى بنود العقد في النظام العام ونقصد بذلك عقد الأشغال العامة فيستخدم الخبير بنود هذا العقد في توضيح أو تصحيح أي بنود مختلف عليها في العقد الخاص بين طرفي النزاع ومثال ذلك أن يطالب صاحب العمل بتكلفة استكمال مشروع تم سحبه من المقاول ولكن العقد لا يجيز له ذلك أو أن الآلية المذكورة بالعقد مخالفة للنظام العام.
سادساً: بالنسبة للمطالبات التي لا تندرج تحت العلاقة التعاقدية وإنما مبنية على أساس الضرر المبني على تصرف أو عدم تصرف أحد أطراف العقد وأدى بالتالي إلى تضرر الآخر فينظر الخبير إن كان ذلك العمل يدخل في مسؤولية المتسبب في الضرر وأنه قد تصرف أو امتنع عن تصرف معين بشكل أخل بتلك المسؤولية وأن ذلك الإخلال شكل سبباً مباشراً أو غير مباشر في أن ينتج عنه ضرر للطرف الآخر وأن مثل ذلك الضرر ليس من المستحيل أو حتى المستبعد توقعه أو حدوثه. فإن كان الأمر وفق ذلك النموذج وجب على الخبير قبول المطالبة والتوصية بالتعويض عنها ومثال ذلك تأخر صاحب العمل في تسليم الموقع لمدة سنة مثلاً فارتفعت خلال تلك المدة أسعار مادة بناء معينة مثل الأسمنت أو حديد التسليح وقد كان من الممكن توريدها وتنفيذها بالموقع قبل ارتفاع السعر فيكون صاحب العمل قد تسبب في خسارة المقاول بسبب عدم التصرف بتسليم الموقع في موعده فيعتبر مسئولاً عن تعويض المقاول حتى لو لم يحتوى العقد على أي شرط صريح بذلك، حيث إن تاخر تسليم الموقع من الممكن أن يحدث خلاله ارتفاع بالأسعار وهو شيء لا يعتبر من المستحيل أو المستبعد توقعه أو حدوثه. أما ما كان خلاف ذلك فيجب على الخبير عدم قبول المطالبة والتوصية بعدم التعويض عنها.
وقد اعتبر بعض المنظرين تقرير الخبرة مثل شهادة الشاهد واعتبره بعضهم الآخر بمثابة الاستشارة الفنية ومهما كان الأمر فإن تقرير الخبرة لا يعتبر ملزماً لهيئة القضاء أو هيئة التحكيم وإنما تأتي أهميته للاستئناس فإن رأت هيئة القضاء أو هيئة التحكيم الأخذ به كله أو بعضه أو عدم الأخذ به فهو شأنهم ولهم في ذلك تسبيب معين يختص بالقانون الأمر الذي لا يتدخل فيه ولا يتطرق له الخبير ولكن مهما كان الأمر فإن وجود مثل هذا التقرير لدى هيئة القضاء أو هيئة التحكيم يكون له الأثر الإيجابي في التوصل إلى نتيجة مقنعة وحكم قضائي أو تحكيمي صحيح بإذن الله.
وتأتي أهمية تقارير الخبرة أيضاً عندما يطلبها صاحب العمل أو المقاول قبل حدوث النزاع أو قبل اللجوء للقضاء أو التحكيم، حيث يستفيد منها الطرف المعني في فهم موقفه من الخصم وموقف مطالبته من العقد ومن النظام ويفيده ذلك في مرحلة التفاوض والتسوية فيستطيع معرفة ما عليه من التزامات وما له من حقوق مما يجعل الفرصة أفضل في حل النزاع بالتفاوض أو الصلح قبل وصوله للقضاء أو التحكيم مما يوفر على المتقاضين عناء وتكلفة ذلك والوقت المهدور، هذا ولله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.

مهندس مستشار وخبير ومحكم معتمد في الهيئة السعودية للمهندسين ووزارة العدل/ زميل المعهد القانوني للمحكمين في لندن

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي