رحلة مع الذاكرة
ليسمح لي القراء الكرام، ونحن نعيش أجواء المهرجان الوطني (الجنادرية 25)، أن أصحبهم في رحلة مع الذاكرة لزيارة مسكن من مساكن الرياض الطينية القديمة، وكنت أودُّ أن أطلعكم على تفاصيل المسكن الذي ولدت فيه لكونه يقع في منطقة الديرة، على مقربة من المقيبرة، بين حلة «الشرقية» وحلة «العياف»، ولكن ذاكرة الطفولة المبكرة لا تحمل تفاصيل تكفي للحديث عنه، لذا سآخذكم في زيارة للمسكن الذي نشأت فيه وترعرعت، ويقع في حلة «البديِّع» على مسافة ثلاثمائة متر تقريباً غربي المقيبرة. ويقع المسكن على شارعين شرقي وجنوبي، وهو مبني من «اللبن» بمونة الطين، وأساساته من الحجارة الجيرية بمونة الأسمنت، وقد كُسيت حوافه العلوية وشرفه وحول «الطيق» النوافذ والأبواب بمادة «الجص» الجيرية، وتبلغ مساحة أرضه قرابة ثلاثمائة وأربعين متراً مربعاً، ويعد بهذه المساحة من المساكن الكبيرة جداً بمقياس ذلك الزمان.
وللمسكن بابان، باب خشبي كبير مشغول بدقة متناهية في الواجهة الجنوبية - يقال إنه مستورد من الكويت - مصبوغ باللون الأخضر الفاتح، عليه زخارف بارزة ومحفورة وملونة بألوان زاهية، وبه خوخة للدخول دون الحاجة إلى فتح كامل مصراعيه، ويسمى «الباب الرسمي» لأنه مدخل الضيوف إلى «دهليز» الديوانيات (والديوانية مكان الاجتماع والسمر واستقبال الضيوف بشكل يومي)، وكذلك إلى الدرج الموصل إلى «الروشن» المجلس الرئيسي لاستقبال الضيوف الرجال في المناسبات الرئيسية والحفلات، ويبرز فوق الباب الرسمي من الدور العلوي صندوق خشبي عليه نقوش فنية وبه فتحات صغيرة في أسفله وعلى جوانبه تمكن النساء من أهل البيت من التعرف إلى القادمين من الضيوف أو العابرين في الطريق، وتسمى «الطرمة». أما الباب الثاني في الواجهة الشرقية، وهو مشغول محلياً من خشب الأثل، وعليه نقوش نجدية فنية تجريدية (بالألوان الأحمر والأزرق والأصفر)، ويسمى باب «القوع»، لأنه يفتح على «حوش القوع» (والقوع فناء أرضيته ترابية، مخصص لإيواء البهائم مثل: البقرة والحمار، ولتربية الأغنام)، ويتم أيضاً عن طريقة إخراج الفضلات من «البرج»، والبرج بناء مكون من عدة أدوار في كل دور «صهروج»، أي: مرحاض مستقل. وجزء من «حوش القوع» مسقوف لتوفير الحماية للحيوانات من حرارة الشمس والأمطار. ويلي «حوش القوع» بئر ماء «قليب» مطوية بالحجارة، يليها فناء صغير يفتح عليه المطبخ وبجواره غرفة صغيرة مخصصة لجلوس النساء اللواتي يحضرن يومياً لمساعدة ربَّة المنزل في أعمال الطبخ والنفخ.
ويتوسط المسكن فناء آخر يسمى «بطن الحوي» أو «الشمسة»، ويحيط به أروقة معمدة تسمى «المصابيح»، وأعمدتها من الحجارة الدائرية المكسوة «بالجص»، ونهاياتها العلوية على شكل تيجان مدرجة، وتصل بينها أعصاب خشبية منقوشة بطريقة فنية مشابهة لما هو موجود على باب «القوع»، والمصابيح من أفضل الأماكن لجلوس النساء في ساعات الصباح الأولى في مشرق الشمس في فصل الشتاء، وفي المناطق المظللة قبل أن ترتفع الشمس وتشتد حرارتها في فصل الصيف. وتحيط بالمصابيح ثماني غرف، اثنتان منها ديوانيات واحدة للرجال والأخرى للنساء، ويوجد في أحد الزوايا الداخلية لكل ديوانية «وجار» يستخدم لتجهيز القهوة والشاهي، وهو عبارة عن موقد للفحم أو الحطب على شكل حفرة متصلة بمنفاخ مروحي لإشعال النار، يدار بطريقة يدوية. أما حائط «الوجار» فمبنية على شكل أرفف مزخرفة بالجبس المحفور تسمى «كمار»، توضع عليها المباخر والدلال والأباريق وفناجين القهوة وكؤوس الشاهي وبقية أدوات إعداد القهوة والشاهي ومستلزماتهما. وقد دهن الجزء الأسفل من جميع الجدران بارتفاع ما يقارب المتر بلون أخضر ريان ولامع، وقد غطيت الأرضية بقطع من السجاد الفارسي ذي الألوان المتعددة والزاهية، أما حواف الديوانية فقد رصت عليها المساند المصنوعة من قماش القطيفة الحمراء المحشوة بالتبن، كما وضع عدد من المتاكي الخشبية المغطاة بالقماش والمزينة بزخارف من المرايا الصغيرة و»القمورة» وهي المسامير النحاسية. أما سقف الديوانة (المشيد من جذوع الأثل الحاملة لطبقة من أعصاب جريد النخل المغطى بالحصير قبل وضع الطين عليها)، فهو مغطى من الأسفل بسقف مستعار من قماش الكتان السميك ذي اللون الأبيض المصفر. وبقية غرف المسكن مشابهة للديوانية إلا أنه لا يوجد بها «وجار» أو «كمار». وتوجد غرفة واحدة تستخدم لتخزين الأغذية، فيها بناء إضافي على شكل غرفة صغيرة تسمى «الجصة»، وسميت بذلك لكونها مكسوة بالجص بشكل كامل من الداخل والخارج. وتستخدم «الجصة» لتخزين التمر وكنزه، ولها فتحة صغيرة مرتفعة عن الأرض بقدر قامة الإنسان، عليها باب خشبي محكم الإغلاق، وفي أسفلها نقب صغير متصل بما يشبه المجرى، يسيل فيه دبس التمر.
وللمسكن سلّمَان، يسمى الواحد منهما «بيت الدرج»، يصلان إلى الدور الأول والسطح ولكن على مرحلتين لكل درج. ويوجد في الدور الأول سبع غرف مع «الروشن»، بالإضافة إلى «الخارجة» وهي تراس غير مسقوف يفتح إلى الجهة الشرقية، يستخدم للجلوس في ليالي الصيف بعد رشه بالماء قبيل المغرب لتخفيض درجة الحرارة، ويستخدم أيضاً للنوم تحت «النومسية»، وسميت بذلك لأنها تمنع وصول الناموس أو البعوض إلى النائمين، وهي عبارة عن غلاف مكعب من «الشاش» قماش القطن الأبيض الخفيف، يتم نصبها من خلال شدها بخيوط مثبتة إلى الجدران. كما تستخدم «الخارجة» لتشميس التمر بعد غسله وقبل كنزه.
أعتقد أنني تعديت المساحة المحددة للزاوية وما زال لدي الكثير للحديث عن مساكن أيام زمان، وتنشيط ذاكرة بعض القراء، وتعريف بعضهم الآخر بما كان الوضع عليه؛ لذا سأحاول أن أعود للموضوع في مقال آخر إن شاء الله.