الجمعيات الخيرية.. وقفة للتأمل

العمل الخيري له أسس راسخة في ديننا، فالزكاة أحد أركان الإسلام وقد شرع الله الزكاة وحدد مصارفها بنص القرآن الكريم وجاء الوعيد الشديد لمن لديه مال ولا يؤدي حقه ويخرج زكاته، كما حث الاسلام على الصدقات وإطعام المساكين وتزداد وتيرة العمل الخيري في شهر رمضان المبارك، ويحرص المتبرعون على تقديم التبرعات العينية والنقدية، وبكميات كبيرة سنوياً، قد تبلغ مليارات، للجمعيات الخيرية المنتشرة في ربوع البلاد، إلا أن العمل الخيري لا يزال دون مستوى المأمول، من حيث الكم والكيف، سواء في تحديد الدور والهدف الرئيس من وجود الجمعيات الخيرية، أومدى تأهيل وكفاءة إدارات هذه الجمعيات، وطريقة العمل في هذه الجمعيات، ومدى تواجد القدرات والتخصصات العلمية المطلوبة للعمل في حقل الجمعيات الخيرية.
فإذا نظرنا لعدد الجمعيات الخيرية في المملكة فالعدد محدود مقارنة بحجم المملكة ومساحتها الشاسعة، حيث لم يتجاوز عدد الجمعيات الخيرية بالمملكة 500 جمعية، بينما في الولايات المتحدة الامريكية أكثر من 1.514.000 جمعية خيرية، وفي إسرائيل أكثر من 40.000 جمعية، والعالم العربي بأكمله من شرقه لغربه لا يتجاوز عدد الجمعيات فيه بضعة آلاف. وفي أمريكا وحدها، تبلغ إيرادات الجمعيات الخيرية أكثر من (800) مليار ريال سنوياً، في حين يعمل في هذه الجمعيات أكثر من (11) ألف موظف وموظفة. وينظر إلى العمل التطوعي كقطاع ثالث، إلى جانب قطاعي العمل الحكومي والخاص. ونحن هنا لا ندعو إلى تشجيع زيادة الجمعيات الخيرية في المملكة، على الإطلاق، ولكننا نورد المقارنة الإحصائية لتأكيد وجود حاجة لدراسة وتقييم تجربة الجمعيات الخيرية في المملكة، والإستفادة من تجارب عالمية في المجال نفسه، لا من حيث الكم فقط، ولكن من حيث الكيف أيضاً، وهو الأهم.
وفي المملكة تبذل وزارة الشؤون الاجتماعية جهوداً مشكورة في عملية تنظيم وإدارة الجمعيات الخيرية، إلا أن هذه الجهود التي تبذل دون مستوى الطموح. فعلى مستوى الإحصائيات لا توجد إحصائيات رسمية أو معلومات منشورة ومتاحة للمجتمع، عن حجم المبالغ التي تملكها الجمعيات الخيرية، ولا عن حجم مصاريف التشغيل والإدارة لهذه الجمعيات، ولا عن حجم المبالغ المدفوعة للمستفيدين من خدمات الجمعيات الخيرية، ولا عن المسئولين عن هذه الجمعيات. وبسبب غياب المعلومة، يتحدث بعضهم عن وجود تضخم في المصاريف الإدارية والتشغيلية، مثل الرواتب والمباني والإيجارات والأثاث، على حساب ما يتم تخصيصه للمستفيدين. وفي ظل عدم وجود معلومات تفصيلية عن حجم إيرادات ومصاريف الجمعيات الخيرية، وعدم وجود شفافية في عرض جميع المعلومات المالية والإدارية، قد يحجم المتبرعون، أو الراغبون عن الدعم والعطاء. وقد يكون من المستحسن قيام الجمعيات الخيرية بعرض قوائمها المالية وتقارير توضح الجهات المتبرعة والمستفيدين (بطريقة تحفظ الخصوصية للمستفيدين) بشكل سنوي، على أن تكون هذه التقارير مراجعة وموثقة مالياً ومحاسبياً من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية وكذلك من قبل مكاتب محاسبين قانونيين معتمدين.
ومن ناحية الدعم المالي والمعنوي يلاحظ أن الدعم المقدم من وزارة الشؤون الاجتماعية دعم محدود ويعتمد عمل بعض الجمعيات الخيرية وإدارتها على ''العمل التطوعي'' غير المؤسس، وهو الاعتماد على أشخاص يعملون بشكل جزئي، وأحياناً متقطع أو موسمي، وقد يتسلم هؤلاء المتعاونون مكافآت، للقيام ببعض الأعمال مثل تحصيل التبرعات، واستقبال المستفيدين، وغيرها. فإلى جانب عدم تفرغهم وحضورهم في أوقات غير منتظمة مما يربك العمل، يغلب على هؤلاء المتعاونين عدم التخصص والاجتهادات الفردية، ويفترض بوزارة الشؤون الاجتماعية أن تتولى دفع راتب المدير التنفيذي للجمعية أسوة بما هو معمول به في وزارة التربية والتعليم والمدارس الأهلية، حيث تتحمل وزارة التربية والتعليم رواتب مديري المدارس الأهلية.
ومن ناحية دور الجمعيات الخيرية فيبدو أن دور بعضها ما زال مركزاً على تقديم المساعدات العينية والنقدية، الأمر الذي ينمي ويذكي الكسل والاتكالية لدى الأشخاص والعائلات المستفيدة، ويقتل روح المبادرة والرغبة في العمل والإنتاجية. كما يؤدي اعتماد المستفيدين على المساعدات من الجمعيات الخيرية إلى عدم حرص ورغبة الأهالي في تشجيع أولادهم على الاستمرار والاستثمار في التعليم. فطالما توافر دخل ثابت لهذه العائلات، والتي يعاني بعضها قلة الوعي التعليمي، دون ربط هذه المعونات بشروط مثل مواصلة تعليم الأولاد بنجاح، وقطع المعونة بعد عدد من السنوات، ودون العمل على خطط وبرامج لتحويل الأسر والأشخاص المستفيدين إلى منتجين، فسوف تستمر وتزداد حالات الفقر والاتكالية. مع الإشارة إلى أن هناك جمعيات خيرية بادرت وأدخلت أبناء المستفيدين من خدماتها في مدارس أهلية لتطوير مستواهم والخروج بهم من دائرة الفقر من خلال التعليم.
ومع تعدد وانتشار الجمعيات الخيرية تصبح عملية التنسيق بينها أمراً ملحاً وضرورياً، وخصوصاً أنها تستهدف وتساعد عائلات محددة. ولعل من أهم متطلبات التنسيق والتكامل بين هذه الجمعيات ضرورة توافر بيانات دقيقة للعائلات المستفيدة. وعدم تكرار المستفيدين بين الجمعيات الخيرية، وكذلك مع الضمان الاجتماعي من خلال نظام آلي مرتبط بوزارة الشؤون الاجتماعية.
وإن تحدثنا عن أوجه القصور في أداء الجمعيات الخيرية فإننا نعترف ونثمن دورهم الكبير في المجتمع السعودي، ونحن نعرف شخصياً أفراداً ومؤسسات يقومون بدورهم في صمت وبعيدا عن الأضواء، متطوعين بأوقاتهم وأموالهم، ولكن هذا لا يمنع من إبداء بعض الملاحظات، وهدفنا هو تجويد العمل وحسب.
وجميل جداً وجود وحدة أو مركز للدراسات حول إشكالية الفقر، يتم من خلاله دراسة الظاهرة في المجتمع من قبل الجمعيات لأنها المتواجدة في الميدان ولصيقة بظروف الأفراد والأسر المحتاجة. وهذه الوحدة أو المركز سوف تكون بنكا للمعلومات والإحصائيات حول مستويات الفقر والفقراء وفئاتهم المختلفة من الأرامل والقصر والمعوقين وكبار السن...إلخ. وهذه المعلومات مهمة جداً لرسم الخطط المستقبلية وتجعل صانع القرار على اطلاع ومعرفة دقيقة بالقضية، وبالتالي تصبح القرارات ونتائجها أقرب للصواب.
كما نقترح أن تعقد هذه الجمعيات ورش عمل ولقاءات وندوات مستمرة لتبادل الخبرات وتقييم التجارب. وحبذا لو تكون هناك أيضاً أوراق عمل تطرح في هذه اللقاءات، لكي تكون رصيدا متراكما للمعرفة يرفد عمل هذه الجمعيات.
ولإشاعة روح التكافل والتعاون في المجتمع فيحسن تقديم دورات أو دبلومات تأهيلية للشرائح المستفيدة كافة من خدمات الجمعيات من قبل مؤسسات التعليم الفني والتدريب المهني والجامعات. ويمكن أيضاً تأسيس مكاتب للتنسيق لتأهيل أو توظيف طالبي العمل من هذه الأسر المعوزة أو ذات الظروف الخاصة، على أن يتم التنسيق في ذلك مع مكاتب العمل والغرف التجارية وصندوق الموارد البشرية.

وللحديث بقية

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي