الأستاذ البليهي والتنظير لثقافة الانعتاق (1 من 2)

من حق المجتمع في المملكة, وبالأخص المنشغلين بالشأن الثقافي, أن يحتفوا بفكر الأستاذ البليهي, ونحن معه في ممانعته من أن يستدرج في الكتابة والرد على من يخالفه في الرأي, وليس هذا من باب الدعوة إلى الإهمال والاستصغار للرأي الآخر وإنما تنبع هذه المعية من خوفنا من انشغال أصحاب الرأي والفكر بالدفاع عن آرائهم على حساب استكمال مشاريعهم التي هي ربما في مرحلة النظر والدراسة والتكامل. ولعل المفهوم الأكثر أهمية الذي سمعناه في حديث الأستاذ البليهي في برنامج ''إضاءات'' هو مفهوم الانعتاق, فالبيئة الثقافية والاجتماعية التي ينشأ فيها الإنسان وتحيط به في بدايات حياته تشتغل على برمجته ثقافيا وتشكله في إطار ما تحويه هذه البيئة من قيم وقناعات وأفكار, ففي إطار هذا المحيط تتشكل شخصياتنا, وفي إطار هذه البيئة يتحدد كثير من معالم تفكيرنا ونظرتنا ورؤانا للحياة. ومن أجل أن يستعيد الإنسان زمام مسؤولية بناء نفسه وصناعة شخصيته, فلا بد له من أن يجتهد على تحرير نفسه من هذا المحيط وأن يعتق وجوده من هذه البيئة المحيطة به, وليس المقصود بهذا الانعتاق هو الطلاق البائن والفصل التام مع هذا المحيط لأن هذا المحيط يحتوي على ما هو جيد وما ينتفع به من قيم وأفكار وقناعات وعادات إلا أن الأخذ بهذه القيم والأفكار الجيدة لا بد له من أن يتم في إطار شخصية منفتحة على هذه الأفكار والقيم بذاتها وبالقدر نفسه من الانفتاح على الأفكار التي هي خارج بيئته ومحيطه, فالانعتاق هو استعادة الإنسان حريته في انتقاء أفكاره وتشكيل قناعاته.
فما يميز الأستاذ البليهي هو طرحه أمهات المسائل الثقافية التي تأخذنا إلى حيث مواطن العلل التي نعانيها وجذور المشكلات التي نواجهها, ففكرة تفكيك الجهل باعتباره منظومة متشابكة من القيم والقناعات التي ربما تتخفى في دهاليز اللاوعي في أذهاننا هو في الحقيقة مشروع لتحطيم صخرة هي بحجم جبل طالما تكسرت عليها جهود كثيرة حاولت وبإخلاص أن تنهض بنا وأن تستنقذنا من واقعنا. وعندما يريد منا الأستاذ البليهي أن نحدد وجهتنا تبعا للمسألة التي نريد بحثها, فلا يمكن أن تبحث عن جواب لمسألة إلا في بيئة مكانية وزمانية قد تعاطى أهلها مع تلك المسألة المطروحة, فتحديد الوجهة مهم لأنه هو الذي يحدد المسار الذي يأخذ بنا إلى حيث نريد.
أما نحن فبودنا أن نقف مع مسألة الانعتاق, في نظرنا أن الانعتاق هو مسألة في غاية الأهمية, فعندها تلتقي خيوط المسائل الأخرى ويتأثر مسار هذه المسائل الأخرى بمقدار ما يحققه الإنسان من إنجاز في مسألة الانعتاق. فقد نستغرب كيف أن التعليم فشل في تحويلنا إلى مجتمع معرفي, فكيف لنا أن نتعلم وتفكيرنا ما زال يعمل ويتحرك من منطلقات لا علمية ولا عقلانية, فبالتأكيد أن هذا الإخفاق سببه أن التعليم لم يصاحبه فعلا انعتاق لذواتنا وبذلك لم يكن بمقدور التعليم أن ينتج لنا معرفة فاعلة يأثر بها تفكيرنا ويستند إليها بناء شخصياتنا. لكن قبل الدخول في بحث مسألة الانعتاق والتطرق إلى مستوياتها المتعددة, وجدنا أنه من المفيد ذكر بعض الأمور التي تجعل من الإطار الذي يحدد حركتنا وفهمنا مفهوم الانعتاق, فمن هذه الأمور وبشكل مختصر ما يلي:
1- هناك علاقة عضوية بين مسألة الانعتاق وموضوع التغيير, فلا يمكن للإنسان أن يمارس الانعتاق لنفسه وهو يرفض التغيير فكريا ونفسيا وسلوكيا. المألوف, خصوصا عندما يمكث طويلا تكون له سلطة مؤثرة وقوية على حياة الإنسان, بل قد يأخذ هذا المألوف شكلا من أشكال القداسة نضفيها عليه إما بصبغة اجتماعية أو دينية, وبالتالي قد ينظر المجتمع إلى محاولات تغيير هذا المألوف على أنه خروج أو إثارة للفتنة ما يستدعي تأجيج المجتمع واستثارته عاطفيا للقضاء على هذه الفتنة. ولتقريب الفكرة وجعلها أكثر وضوحا ننظر إلى ما تواجهه الدعوات التي تريد منا أن نجدد من قراءتنا للمسائل والموضوعات الدينية في إطار ما يستجد فكريا ومعرفيا وثقافيا. الثقافة الدينية في نظرتها للتغيير متأثرة وبشكل كبير بقاعدة ''دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة'', ففي إطار هذه الثقافة نجد أن الواحد منا عندما يريد أن يقوم بخطوة إصلاحية دينية كانت أو اجتماعية ستتمثل أمامه ما ينتج عن هذه الخطوة الإصلاحية من إيجابيات وسلبيات, فمجرد وجود سلبيات ووجود شعور من عدم القدرة على نفي هذه السلبيات يؤدي إلى ترك هذه الخطوة الإصلاحية والتخلي عنها. مثل هذه الثقافة جعلتنا شعوريا وربما حتى عقليا نرى أن السلبية والشعور بالمسؤولية من عدم الفعل حتى إن كان في الخطوة إيجابيات ربما أكثر من السلبيات أخف من تلك السلبية التي نحس بها من القيام بالفعل الذي سيجلب معه تلك السلبيات. صحيح أن على القائمين بتلك الخطوة الإصلاحية بذل أقصى ما يمكن فعله لتفادي السلبيات, لكن هل يوجد فعل أو مشروع لا سلبيات له؟ فعليه نحن في حاجة فعلا إلى ترشيد نظرتنا إلى موضوع التغيير وأن نقدر ونقيم الإيجابيات والسلبيات ليس فقط في إطار لحظة الفعل وإنما في إطار أبعد من ذلك, في إطار بقاء الخلل أو المشكلة من دون معالجة وما قد يتسبب ذلك في كبرها واتساعها وتحولها ربما إلى أزمة قد يصعب حلها في المستقبل, في إطار ليس فقط ما نحصل عليه من إيجابيات ومنافع آنية, بل ما سيأتي به هذا الحل لهذه المشكلة من إيجابيات ومنافع مستقبلية.
2- لا يمكن أن نؤسس لثقافة وفهم يعيننا على الإحاطة بمفهوم الانعتاق على المستويين التنظيري والعملي من غير أن نفهم طبيعة علاقتنا كمجتمع بالدين, فثقافة مجتمعاتنا متأثرة بل هي متمحورة حول الدين, فالدين, وهو الإسلام, يعد المرجعية الأهم في تشكيل ثقافتنا الجمعية. لكن فهمنا وقراءتنا للدين بما يحويه من مفاهيم وتعاليم ومبادئ هما اللذان يحددان طبيعة دور الدين في تشكيل ثقافتنا, فهناك فهم وقراءة تعطل الدور الإيجابي للدين في تفعيل وإثراء ثقافتنا الجمعية, وهناك في المقابل قراءة قادرة أن تستخرج ما في الدين من كنوز تطور حياة الفرد والمجتمع ماديا ومعنويا. نحن نعرف أن هناك ثلاثة مستويات للدين, المستوى الأول وهو الأعلى ويتضمن الجزء المقدس من الدين ويمثل هذا المستوى النصوص الدينية المقدسة, القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف الصحيح. أما المستوى الثاني من الدين فهو يتمثل في قراءتنا وفهمنا نحن المسلمين, علماء ومفكرون ومفسرون وفقهاء, لهذه النصوص المقدسة ومحاولة الوصول إلى ما تحويه من معان ومضامين. أما المستوى الثالث والأخير فهو ممارساتنا وسلوكياتنا نحن المجتمعات الإسلامية في ضوء فهمنا الجمعي ومقدار تفاعلنا الذهني والنفسي والروحي مع المبادئ والتوجهات الدينية. فهمنا هذه المستويات الثلاثة ضروري ونحن نناقش فكرة ومفهوم الانعتاق.
3 - بالتأكيد أن ما يراد بالانعتاق هو تعديل سلوكياتنا وفعلنا وتفاعلنا على أرض الواقع, لكن هذا السلوك والفعل والتفاعل لا بد له من أن يؤسس على قاعدة ثقافية, فالانعتاق أولى مراحله تبدأ في داخل نفس الإنسان ''إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم''. الثقافة هي ما يشكل هذا الداخل في الإنسان, فهناك القيم وهناك القناعات وهناك الرؤى وهناك العقائد, وكل هذه الأشياء لها دور كبير في تشكيل ثقافتنا, وبالتالي فالانعتاق مسألة ثقافية بالدرجة الأولى. فلا يمكن أن نؤسس للانعتاق حركة ووجودا في واقعنا من دون أن نحيطه بثقافة تزخر بقيم وقناعات تحرك هذا الانعتاق وتدفع به في المسار الصحيح.
بعد مناقشة بعض الأمور التي يتشكل بها الإطار لفهمنا لمفهوم الانعتاق, نتحرك لمناقشة أوجه هذا الانعتاق. وللحديث تتمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي