معرض الكتاب: الكلمة ومعناها

تقول الدراسات إن أكثر الكتاب المقروئين في العالم هم لاوتس الصيني وشكسبير الإنجليزي وجبران خليل جبران العربي.. ولو ترجم المتنبي إلى لغات العالم لرقص العالم على شفرات كلماته أيضا.
الذين يهرفون بموت الكتاب المطبوع وبموت المؤلف يركضون في دروب التهيؤات المضادة فلا الكتاب بميت ولا كاتبه.. ها نحن نقرأ ملحمة «جلجامش» لعمر يتجاوز الأربعة آلاف سنة ونقرأ برديات «شكوى الفلاح المصري الفصيح» و«إلياذة» هوميروس وعمراهما مثل ذلك ونقرأ ملحمة «لمهابهارتا» الهندية من سحيق التاريخ.. كما نقرأ «الشاهنامه» الفارسية للفردوسي ومعلقاتنا الذهبية وأعمارها قرابة ألفي عام، وما زالت البشرية تعيد ترتيل هذه النصوص المختلفة وتفسيرها في ضوء عصورها، أي أن الكتاب ظل يخطف بسنا نوره سجف الظلام يضيء طرقات العالم، يدخل بيوته حاملا مفاتيح سحرية للمعرفة والخبرة والرؤية كانت حكرا على الكهنة والعرافين والأسياد فيغير الدنيا من حال إلى حال.
قرأ غاندي كتاب هنري ثورو عن العصيان المدني فحطم ظهر الاستعمار البريطاني وانتزع استقلال الهند من إمبراطورية عظمى كانت لا تغيب عنها الشمس، كما قرأت فرنسا فولتير وجان جاك روسو فانهار سجن الباستيل وسطع عصر الأنوار. وقرأ لينين «رأس المال» لماركس فخرج بروسيا من ديكتاتورية القياصرة إلى ديكتاتورية الكريملين وحين نشر آخر خلفائه جوربا تشوف (البروسترويكا) انهار الاتحاد السوفياتي ومعه المعسكر الشرقي برمته. أما هتلر فقد قرأ «سوبرمان» نيتشه فصاغ ألمانيا الجبارة بالحديد والنار ليحرق بها العالم ويحرقها معه، فيما قرأ الساسة على مدى قرون كتاب «الأمير» لميكيافيللي ففرقوا وسادوا وقرأت الشعوب كتبا جسورة خلاقة في العلوم والفلسفة والاقتصاد والتربية والفن والأدب فانتشلتها من الانحطاط والتخلف إلى معارج التقدم والمدنية. (كتب غيرت وجه الإنسانية ــ 3 أجزاء + الدليل الببليوجرافي لروائع الآداب العالمية ــ الهيئة المصرية للكتاب ــ «الألف كتاب الثاني»).
تلك كتب أرضية، أما الكتب السماوية فالزبور والتوراة والإنجيل كانت مصابيح هداية قبل أن يعبث بها الكرادلة والحاخامات والقساوسة والرهبان والبابوات، ولما جاء القرآن العظيم شحن غشامة الأعراب بمرحمة وألفة وفجّر فيهم ينابيع طاقة علوية دفعت بهؤلاء الصحراويين الحفاة الغلاظ إلى الإبحار في ظلمات الأقيانوس نحو الأندلس ففتحوا أجفان أوروبا البهيمة وبسطوا مملكة عربية نشوانة بلغة السماء من (غانه إلى فرغانه).
الكتاب (منذ أول نص محفور على الحجر أو اللوح أو مكتوب على الجلد أو الورق) هو سليل خلجات النفس والوجدان ونافورة بزوغ شمس العقل وإيقاع الروح. فكيف له أن يموت وهو الذي يأخذ بأيدينا معشر البشر منذ الطفولة على مقاعد الدراسة إلى أن نقرأ آخر سطر في غسق إطباق أجفاننا عن آخر مشهد من هذه الدنيا؟ كيف يموت ومنه وفيه امتياز الإنسان الجوهري عن ممالك المخلوقات؟ كيف له أن يموت ومنه وفيه تولد الحضارات وتعيد دوراتها وتشكيلاتها، يستعرض فروسيته، في كل حال، كرا وفرا شئنا ذلك أم أبينا.. بل إن جدنا المتنبي جعل الفروسية والكتاب صنوان في قوله:
أعز مكان في الدنى سرج سابح
وخير جليس في الزمان كتاب

أظن حدس الإلهام الخارق فعل ذلك.. فمثلما تشم الخيل رائحة المطر تشم القريحة طرائدها من الكلمات فتجذبها بصورة غامضة كبرادة الحديد حول المغناطيس.. فيكون زلزال الولادة الذي قال عنه نزار قباني:
أنا الحرف أعصابه نبضه
تمزقه قبل أن يولدا
وكل كتاب (مطبوعا أو مسموعا أو إلكترونيا) يبدأ بحرف وينتهي كلمات إلا أن هناك من يجعل كتابه حارسا للظلام بينما هناك من يحاول أن يوقد فيه شمعة.. لكنه يبقى صحيح دائما أن الكلمة كالعملة، الكلمة الجيدة تطرد الكلمة الرديئة.. والحفاوة بالكتاب عبر معرض خاص به هو عرس الكلمات بلا شك، وقد افتتح معرض الرياض الدولي للكتاب أبوابه خمس دورات شهد فيها كل مرة إقبالا كثيفا يبرهن على اعتصام الناس بالكتاب ملاذا لا غنى عنه ولا بديل له، فهو مصدر الارتواء المعنوي والجمالي والروحي وليس بوسع غيره من المصادر المعرفية أو الترفيهية أن تنافس في جوهرية دوره والضرورة التي لا مناص منها للتواصل الحضاري والارتقاء بإنسانية الإنسان، بل هو أنجع وسيلة يتبين فيه الناس الخيط الأبيض من الخيط الأسود وتسقط فيه الأقنعة!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي