القاضي بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية
يعد الإثبات العامل الرئيس في توجيه الدعوى وتشكيل مسارها, فالقاضي أثناء نظر الدعوى يلتزم مبدأ الحياد, إلا أن نظر القاضي تتجاذبه حقيقتان, الحقيقة القضائية, وهي النظر في الأدلة المعتبرة التي حددها الشرع والنظام ويتقيد القاضي بها, والحقيقة الأخرى هي الحقيقة الواقعية, وهي الأحداث الواقعة والظروف المحيطة التي يعلم بها القاضي ويشعر بها.
وبين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية ثلاثة مذاهب.
المذهب الأول: مذهب يميل إلى اعتبار العدالة ولو بالتضحية بطرق الإثبات واستقرار التعامل, وهذا يسمى المذهب الحر, وأساس هذا المذهب تقريب الحقيقة الواقعية إلى الحقيقة القضائية بأي دليل, بحيث يكون القاضي حرا في تكوين اعتقاده من أي دليل يقدم إليه, وهذا المذهب يراعي مصلحة العدالة ولو نتج عن ذلك اختلال في منظومة الاستقرار القضائي, وقضاء القاضي بعلمه بما يتفق مع العدالة وإن كانت دون أدلة إثبات.
وهذا المذهب رجحه ابن حزم الظاهري, ويعمل به كثيرا في الشرائع الجرمانية والشرائع الإنجلوسكسونية (القانون الألماني والقانون السويسري والقانون الإنجليزي والقانون الأمريكي), وقد تميل النفس في الظاهر إلى هذا المذهب لاعتبار مبدأ العدالة, لكن حظ العدالة في هذا المذهب ظاهري أكثر منه حقيقي, فهو قد يقرب الحقيقة القضائية من الحقيقة الواقعية إلى مدى واسع, لكن بشرط أن يؤمن من القاضي الجور والتحكم, فإذا جار القاضي أو تحكم في تعيين طرق الإثبات وتحديد قيمتها، ابتعدت الحقيقة القضائية عن الحقيقة الواقعية.
المذهب الثاني: يميل هذا المذهب إلى مراعاة الأدلة المذكورة في الشرع والنظام, بحيث يتقيد القاضي والخصوم بما حدده المشرع من أدلة الإثبات, وتكون لكل دليل قيمته وفق التشريع المحدد.
وهذا المذهب يباعد بين الحقائق الواقعة والحقيقة القضائية فقد تكون الحقيقة الواقعة ملء السمع والبصر, لكنها لا تصبح حقيقة قضائية إلا إذا استطيع إثباتها بالطرق التي حددها الشرع والنظام, وهذا رأي لبعض الفقهاء إن لم يكن أكثرهم, وحددوا الإثبات في معنى اليمين والشهادة, لأنه يتبين الحق بهما.
المذهب الثالث: ويسمى المذهب المختلط لأنه يجمع بين سمات الإثبات المطلق (المذهب الحر) والإثبات المقيد, فالقاضي يتلمس وسائل الإقناع بأي دليل يقدم إليه, خاصة في الجانب الجنائي, ويتقيد في بعض الأدلة خاصة في المسائل التجارية مع بقائه حرا في الأصل. لكن لا بد من أن يكون هناك دليل يسترشد به إلى الحقيقة الواقعية بحيث لا يلتفت إلى الحقيقة الواقعية بذاتها.
وذهب إلى هذا ابن فرحون, ابن تيمية, وابن القيم, وهو المعمول به في القانون المصري, فالإثبات على هذا يشمل كل ما يبين الحق ويظهره, فكل دليل أو حجة أو وسيلة في إثبات الحقوق وإظهارها أمام القاضي فهي بينة.
قال ابن القيم “وبالجملة فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره, ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يوف مسماها حقه, ولم تأت البينة فقط في القرآن مرادا بها الشاهدان وإنما أتت مرادا بها الحجة والدليل والبرهان, مفردة ومجموعة. وكذلك قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ “البينة على المدعي”, المراد به أن عليه بيان ما يصحح دعواه ليحكم له, والشاهدان من البينة, ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد تكون أقوى منها كدلالة الحال على صدق المدعي, فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد, والبينة والدلالة والحجة والبرهان والآية والتبصر والعلامة والأمارة: متقاربة في المعنى, وقد روى ابن ماجه وغيره عن جابر بن عبد الله قال: أردت السفر إلى خيبر فأتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلت له: إني أردت الخروج إلى خيبر, فقال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا, فإذا طلب منك آية فضع يدك على ترقوته, فهذا اعتماد في الدفع إلى الطالب على مجرد العلامة وإقامة لها مقام الشاهد. فالشارع لم يلغ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال, بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وجده شاهدا لها بالاعتبار مرتبا عليها الأحكام”. أ. هـ.
وهذا المذهب فيه توازن لأنه يجمع بين ثبات التعامل بما احتوى عليه من قيود, وبين اقتراب الحقيقة الواقعة من الحقيقة القضائية.
والتوازن الملحوظ في هذا المذهب جاء من مراعاته ظروف كل نظام, فالنظام التجاري يتطلب من القيود في استكشاف الحقيقة حتى لو ابتعدت الحقيقة القضائية عن الحقيقة الواقعية من أجل استقرار التعامل بين التجار ومراعاة المصالح العامة والمطالب الحيوية, بينما نجد أن بعض الأنظمة تقلل من القيود حتى يشتد التقارب بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية فيرجح حظ العدالة ومجال هذا في القضاء الجنائي غالبا والقضاء الإداري.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن القاضي الإداري يتمتع بصلاحيات واسعة كونه غير ملتزم بطرق معينة في الإثبات, ولذا نجد أنه هو الذي يحدد وبكل حرية طرق الإثبات المقبولة أمامه والتي تتلاءم مع الدعوى المنظورة. الواجب على القاضي الإداري أن يلاحظ دائما أن جهة الإدارة تتمتع بامتيازات خاصة باعتبارها الطرف الدائم في الدعاوى الإدارية, وبالتالي فإنها تتحكم في تشكيل نظرية الإثبات في القانون الإداري ويؤدي ذلك إلى ظاهرة انعدام التوازن بين الطرفين من جهة الإثبات. وذلك من أمرين:
الأمر الأول: الإدارة هي الطرف الأقوى ويتمثل ذلك في كونها تتمتع بالامتيازات سواء في القرارات أو العقود, كما أن الأوراق والمستندات تحت يدها تتصرف فيها وفق ما تراه.
الأمر الثاني: أن الفرد المتعامل مع جهة الإدارة ضعيف في مواجهة جهة الإدارة كونه يترافع بنفسه أو بوكيل عنه وليس هناك أي جهة تحمي مطالباته قبل صدور الحكم القضائي.
ولذلك يجب على القاضي الإداري دوما أن يسير في الدعوى بتوازن بين الطرفين وينقل عبء الإثبات إلى الطرف الآخر متى ما عجز المدعي عن ذلك, وهذا يحتم على القاضي الإداري أن يمارس دوره تجاه الدعوى الإدارية وأن تكون الممارسة في ذلك إيجابية لا سلبية بما يضمن حقوق الدفاع وضمانات التقاضي واحترام استقلال جهة الإدارة, وهذه الممارسة الاحترافية تؤكد أن للقاضي الإداري سلطات واسعة تساعده على تكوين اقتناعه بالقضية والتثبت من تحقيق الادعاء, وأيضا تحريك الدعوى في توجيه الخصوم وفي استكمال الأدلة الناقصة وفي استيضاح ما أبهم من وقائع الدعوى, وإبداع الحلول المناسبة والعادلة التي توفق بين المصلحة العامة والمصلحة الفردية.