الشيخ القرني والدعوة إلى ترشيد الخلاف الطائفي (1 من 2)

مرة أخرى يثبت الشيخ الفاضل عائض القرني أنه عالم من النوع الذي يعمل ويجتهد على ترشيد الواقع وليس على إثارته وتأجيجه, فهناك علماء كثر من النوع الثاني الذين لا تراهم إلا في مواقع الفتنة, ولا تسمع لهم إلا وهم يدعون أتباعهم إلى تكفير هذا وتسقيط ذاك وتضليل فئة والتشكيك في نيات المخالفين لهم في الرأي, إنهم دعاة فتنة وإثارة وتأجيج ليس إلا. دعوة الشيخ عائض القرني إلى نوع من الوفاق بين الطوائف الإسلامية في الحقيقة ممارسة للمسؤولية الملقاة على عواتق العلماء والدعاة الواعين بخطورة ما سيجلبه النزاع الطائفي والمذهبي من ويلات وكوارث على المجتمعات الإسلامية. ولسنا في حاجة إلى الإتيان بأدلة وبراهين على فظاعة النزاعات الطائفية وما تنتهي إليه تلك المجتمعات التي تستدرج بغير وعي منها صراعات طائفية, فالماضي يشهد على ذلك والحاضر ما زال يقدم لنا صورا تثبت لنا كيف أن المجتمعات التي تكتوي بنار الطائفية تنخرط في دائرة جهنمية من العنف لا تبقي لذلك المجتمع لا أمنا ولا استقرارا ولا حتى فرصا حقيقية للتنمية.
إنه عين العقل أن يتصدى علماؤنا من وزن الشيخ القرني لإثارة الفتنة الطائفية في عالمنا الإسلامي, فهناك من يريد أن يجعل من الاختلافات المذهبية قضية تشغلنا بأنفسنا وتستنزف مواردنا وتعمق الكراهية في نفوسنا وتمهد الأجواء للاقتتال بيننا. لا تحتقن النفوس بمثل ما تحتقن به النفوس المستثارة طائفيا ولا تجد كراهية أبشع من الكراهية الطائفية وليس هناك عنف من حيث فظاعته ولا إنسانيته أشد وأمر من العنف الديني والطائفي. مثيرو الفتنة الطائفية تجد خطاباتهم كلها شتما وتهما للآخرين, ينظرون للماضي فلا يأخذون منه إلا ما يفجر الحاضر, ويتفقهون في الدين ليزيدونا بعدا عن بعضنا, ويسبقونا إلى المستقبل لا ليمهدوا الطريق إليه بل ليسرقوه من أحلامنا وتطلعاتنا, حتى نوايانا لا تسلم من غزواتهم, فمرة يتهمون الآخرين بأنهم بطبيعتهم منحرفون أو مبتدعون, ومرة أخرى يقولون لنا إن من يخالفهم ما هو إلا ألعوبة بيد الآخرين, فهم يريدون أن يختزلوا الناس في ذواتهم, والخارجي من لا يرى رأيهم ولا يقول بقولهم ولا يأخذ بفعلهم.
ولقد كان الشيخ القرني رائعا عندما ضمن دعوته نداء لكل العلماء والمفكرين والمنشغلين بالشأنين الثقافي والإعلامي, بأن يتفاعلوا مع قضية الاختلافات والتباينات الطائفية بمستوى خطورتها على وحدة وسلامة مجتمعاتهم. لا نريد - كما قال الشيخ - وفاقا طائفيا يتكلم به العلماء ولا يسمع به الإنسان العادي, فالمطلوب أن يتحول هذا الوفاق إلى ثقافة يرجع إليها الكبير وينشأ عليها الصغير, ثقافة تجعلنا نحترم خصوصيات بعضنا وتنطلق بنا من دائرة المشتركات التي بيننا.
لعلنا ونحن نقرأ نداء الشيخ وهو يستنهض همم علمائنا ومفكرينا للوقوف في وجه كل من يريد أن يستدرج مجتمعاتنا الإسلامية للوقوع في طاحونة الفتنة الطائفية, نستطيع أن نستوحي كثيرا من النقاط المهمة ذات العلاقة بهذا الموضوع, ومن بين هذه النقاط الكثيرة نستعرض جملة منها وبشكل مختصر:
1 ـ ليس القصد من حالة الوفاق الطائفي هو الموافقة والقبول بما عند الآخر, لكن ما يعنيه هذا الوفاق هو ترشيد هذه الخلافات والتباينات المذهبية في إطارها السلوكي والانفعالي. الإنسان بطبيعته ينفعل مع معتقداته وأفكاره, لكن هناك انفعالا عقلانيا وانفعالا غير عقلاني, وحالة الوفاق تنشد إلى عقلنة هذا الانفعال وجعله يتحرك في إطار من القيم والضوابط الأخلاقية. هناك انطباع ثقافي عام, وهو أن الانفعال بالمطلق مع الأمور الدينية هو انفعال محمود ويعبر عن قوة ما يعتقده الإنسان أو يأخذ به من أفكار. لا يراد إلغاء هذا الانفعال بالمطلق, بل المطلوب هو ترشيده ووضعه في مسار لا يخرج بهذا الإنسان من تعامله مع الآخرين في الطرف الآخر عن الحدود الإنسانية. الاختلاف لا يعطي المشروعية للإنسان أن ينتقص من كرامة الإنسان المخالف له, ولا يعطيه الحق في أن يوسع دائرة خلافه مع هذا الآخر إلى خارج منطقة الاختلاف. وأما الانتقاص من كرامة الإنسان المخالف فلا يعني فقط المس المباشر بكرامته بل ربما يكون بشكل غير مباشر, وذلك من خلال التعاطي مع رموز أو خصوصيات هذا المخالف بشكل مهين. الرمزية عند الإنسان تحيط بها حالة شعورية مكثفة وضاغطة على النفس, ومثل هذه الحالة تتطلب منا فهمها وتقديرها حتى يتسنى للنفوس أن تتقبل بعضها.
2 ـ فهمنا الحقيقة كمفهوم, ووعينا بها ربما له دور كبير بما نحن عليه من توترات مذهبية وطائفية. هناك كثير ممن يعتقد أن كل خلافاتنا هي حول حقائق مطلقة, التي لا شك فيها ولا غبار عليها, وبالتالي فلا مهادنة ولا تنازل عن هذه الحقائق تجنبا من الوقوع في الباطل. نعم هناك حقائق مطلقة ولعله لا يوجد خلاف حقيقي بين المذاهب الإسلامية حولها, لكن معظم خلافاتنا المذهبية هي من نوع الخلاف حول الحقائق النسبية التي تتأثر بعوامل الزمان والمكان والظروف الاجتماعية المحيطة بها. أولا المذاهب هي في إطارها العام قراءات متعددة للموضوعات الدينية, وهذه القراءات هي اجتهادات بشرية فيها الصحيح وفيها الخطأ وفيها الحق وفيها الباطل, فليس بالضرورة أن كل ما ينتجه المذهب من فكر أو فقه هو من الدين لكنه يعكس فهمنا لهذا الدين, وبالتالي فخلافاتنا في معظمها تعكس هذا التباين لفهمنا للدين الواحد والموضوع الواحد. وأيضا فإن كثيرا من الأمور الخلافية هي خلافات أساسها اجتماعي, وهذا النوع من الخلاف لا يخضع لقانون الوسط المرفوع الذي يقول به المناطقة الذين يقسمون به الحياة إلى جانبين أو طرفين لا ثالث لهما, الحق والباطل, الجمال والقبح, الخير والشر, فالشيء إما أن يكون في هذا الطرف أو ذاك, وإذا خرج من جانب دخل حالا في الجانب الآخر, ومن هنا نستطيع أن نفسر سرعة تحول خلافاتنا المذهبية إلى صراعات وتوترات اجتماعية.
3- التدبر فيما حدث في الماضي وما يحدث الآن في الحاضر من نتائج وعواقب للتوترات والنزاعات الطائفية في المجتمعات الإسلامية عموما. هل عادت الصراعات والاحتدامات المذهبية بأي نتائج إيجابية على المذاهب نفسها أو على الحالة الإسلامية عموما؟ هل توتير المجتمعات مذهبيا في الماضي والحاضر حقق فعلا نتائج في التقليل من هذه الخلافات أم أنه كان السبب في تعميق هذه الخلافات وازدياد تمسك كل جماعة بما تأخذ به من آراء أو اجتهادات؟ لا بل صارت الأجواء المحتقنة بيئة مناسبة ومشجعة لإنتاج مزيد من صور الخلاف والنزاع بينها.
4 ـ الخلافات المذهبية هي ليست وليدة اليوم, بالتالي فهي لم تعد مجرد خلافات, بل صارت محاطة بثقافة تحمي هذه الخلافات وتعيد إنتاجها في أشكال تتوافق مع تجدد الزمان وتغير المكان. من العبث أن ننشغل بالأفكار الخلافية وننسى الأطر الثقافية التي تحتمي بها. الثقافة هي التي جعلت حواراتنا غير جادة وغير مجدية, والثقافة هي التي جعلت من الخلاف اختلافا, والاختلاف مبررا لإسقاط الآخر. ونتيجة لتراكم الخلافات المذهبية وطول بقائها في مجتمعاتنا صارت عندنا حالة من ثقافة التشدد في التعامل مع بعضنا, ولم يعد للتسامح تلك المساحة التي تستوعب ما عندنا من مشتركات دينية ووطنية واجتماعية. إنه وبسبب هذه الثقافة التي أنتجها هذا الخلاف صارت كل هذه الحواجز النفسية التي تصطدم بها كل محاولات التواصل والحوار بيننا.
فعلا - وكما قال الشيخ القرني ـ نحن في حاجة إلى وفاق طائفي لا يشهد عليه فقط علماء الدين الذين - مع الأسف - كثير منهم ممن اعتاد أن يعيش وأن يفكر في الأجواء المحتقنة مذهبيا. نحن في حاجة إلى وفاق طائفي يشترك في صياغته وإعداده, إضافة إلى العلماء, رجال الثقافة والفكر والإعلام على أن يتكفل الجميع بتحويل أفكار هذا الوفاق إلى ثقافة وفكر وممارسات في إطار كل المذاهب الإسلامية. وللحديث تتمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي