أمريكا تحتاج من رئيسها إلى حديث يشحذ الهمم
نتوقع من زعمائنا أن يقوموا بإدارة مستوى النشاط الاقتصادي عبر توظيف الأدوات المالية والنقدية، مثل أسعار الفائدة، والحوافز الضريبية، ورزم التحفيز من أجل تجنب حالات الركود الاقتصادي. لكن في أعقاب تفجر أكبر فقاعة في التاريخ، في سوق العقار وفي الأسواق الأخرى، نجد أن هناك ظاهرة اجتماعية ـ نفسية، هي الثقة الزائدة، لم تتم معالجتها من قبل زعمائنا، وشكل انهيارها لاحقا السبب الأعمق لوقوع الأزمة المالية.
يمكننا أن نتصور أن عبارات التحذير كان يمكن أن تكون فعالة في وقف الفقاعة قبل أن تصبح بذلك الحجم الكبير. خطاب ألان جرينسبان عام 1996 كان له أثر مهدئ قصير على أسواق الأسهم حول العالم. لكن في الأعوام التي سبقت الأزمة مباشرة، فشل الزعماء في إصدار ملاحظات تحذيرية قوية، أو في كبح الاستثمار المفرط في الحماسة عبر تغيير الحوافز الاقتصادية.
الخطر الآن هو أن نصاب بالوهن في فترة تتسم بتدني مستوى الثقة. لقد تخلصنا الآن من الثقة المفرطة التي اتسمت بها الأعوام القليلة الماضية، والتي شجعت كثيراً من الناس على أن يثقلوا أنفسهم بالمديونية في استثمارات عقارية مشكوك في جدواها، خلفت وراءها إرثاً من المحافظ المتضررة. في هذا المناخ الاقتصادي الغامض تتردد الشركات في الاستثمار ويحجم المستهلكون عن الإنفاق. وربما يبدو هذا التردد حكيماً بالنسبة إلى شركة أو عائلة معينة، لكن الأثر التراكمي للقرارات الفردية المستندة إلى الثقة المتدنية هو اقتصاد متوقف، إما أنه لا يتعافى أو ينزلق مرة أخرى إلى الركود.
إلى أي مدى يستطيع الزعماء السياسيون أن يؤثروا في الثقة الاقتصادية؟ النجاحات في إدارة الثقة الاقتصادية أسطورية لكنها نادرة. وأشهر مثال عليها هو النجاح الذي حققه فرانكلين ديلانو روزفيلت في إدارة الأزمة المصرفية إبّان الكساد العظيم.
ما عليكم إلا أن تفكروا فيما حدث في ذلك الوقت. ففي شتاء 1932/1933، تهافت الناس على البنوك في الولايات المتحدة لسحب أرصدتهم منها، ولاية بعد ولاية. وعندما تولى روزفيلت منصبه في الرابع من آذار (مارس) 1933، كان الاقتصاد في حالة شلل تام وكان ربع القوى العاملة عاطلة عن العمل. وأعلن أكثر من نصف الولايات عن إغلاق البنوك بصورة مؤقتة وتم فرض قيود مشددة على سحب الأموال من البنوك في الولايات الأخرى.
في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة تنصيبه في الرابع من شهر آذار (مارس)، استخدم روزفيلت عبارة اشتهرت من قبل وهي أن «الشيء الوحيد الذي ينبغي أن نخاف منه هو الخوف نفسه» (انتشرت بين الناس قبل ذلك بعامين على يد توماس مولين، مدير الدعاية لعمدة بوسطن، جيمس كيرلي)، وجعل من كبت الخوف والاستعداد لدعم الاقتصاد التزاماً أخلاقياً بالنسبة للجميع.
كان أول إجراء أقدم عليه رزفيلت رئيسا، وذلك بعد برهة وجيزة من منتصف أول يوم كامل له في الرئاسة، هو جعل إغلاق البنوك عاماً. فقد أغلق جميع البنوك الأمريكية في الخامس من آذار (مارس). لكنه قام أيضاً بمناشدة فعالة. فقد بدأ تقليداً تمثل في الاتصال بشعبه عن طريق توجيه الرسائل الإذاعية الشخصية لهم. وأصبحت تلك الرسائل تدعى «حديث البيوت» لأنها كانت تشبه الأحاديث الودية التي يتبادلها الناس فيما بينهم.
لقد حققت تلك الرسائل نجاحاً عظيماً واستقطبت أعداداً كبيرة من المستمعين. وفي أول رسالة له في 12 آذار (مارس)، عندما أعلن إعادة فتح البنوك في اليوم التالي، طلب من الناس عدم الاندفاع لسحب أموالهم: «إن نجاح برنامجنا الوطني العظيم برمته يعتمد بالطبع على تعاون الشعب - على دعمه الذكي وعلى استخدامه لنظام يعتمد عليه». لقد كان الحديث المنزلي سيناريو مصمماً لطلب الالتزام الأخلاقي من جانب الناس والثقة ببعضهم بعضا.
عندما أعادت البنوك فتح أبوابها في اليوم التالي، حبس البلد أنفاسه. هل ستتواصل عمليات التهافت على البنوك؟ أم هل سيقوم الناس بإخراج مدخراتهم من تحت فراشهم ويعيدوا إيداعها في البنوك، الأمر الذي يمكِّن من بدء التعافي؟ لحسن الحظ أنهم أعادوا إيداعها وبقيت الرأسمالية .
هناك أدلة على أن الروح العامة التي بثها روزفلت كانت بالغة الأهمية بالنسبة للنجاح الأولي لخططه الهادفة إلى تحقيق الانتعاش الاقتصادي . فقد أكد تقرير نشر في 13 آذار (مارس) في صحيفة «نيويورك تايمز» أنه حتى بالرغم من عدم تمكن الناس من الوصول إلى حساباتهم المصرفية، كانت هناك زيادة ملحوظة في التبرعات النقدية للكنائس في يومي الأحد اللذين أغلقت البنوك فيهما، وكانت تلك الزيادة قوية لدرجة جعلت أحد الحاجبين يعتقد أن «هناك نوعاً من التضخم النقدي الذي خرج عن زمام السيطرة». ويبدو أن مناشدة روزفيلت للمواطنين بالتفكير في الصالح العام ترجم إلى هبّة لمساعدة الآخرين.
إضافة إلى أنه عمل على تحسين الحالة المزاجية العامة، أدخل روزفيلت كثيرا من المبتكرات الاقتصادية. وضمن الصفقة الجديدة، أنشأ روزفيلت المؤسسة الاتحادية لضمان الودائع، وهيئة الأوراق المالية والبورصة، ونظام الضمان الاجتماعي وغير ذلك كثير. وما من شك في أن الخطوات القوية التي قام بها لتوفير وسائل الوقاية الاقتصادية عملت بالترادف مع الرسائل الملهمة التي كان يوجهها. وواقع الأمر يقول إن الاقتصاد شهد تحسنا ثابتا خلال الفترة 1933 – 1937.
استمر الدعم الجماهيري لروزفيلت وقتاً طويلاً، إذا أخذنا في الاعتبار أن الولايات المتحدة ظلت في حالة الكساد. وأعيد انتخابه في فوز كاسح على إلف لاندون عام 1936، رغم أن معدل البطالة ظل عالياً على نحو مروع (14 في المائة). إن جزءاً من الدعم الذي حظي به روزفيلت جاء من التواصل الأخلاقي الذي قام به مع الناس، وعزز الإجراءات القوية التي اتخذها.
بيد أن هذه النجاحات للزعماء الوطنيين في تعزيز الثقة الاقتصادية نادرة. لقد كانت أحاديث روزفيلت المنزلية إيذانا ببدء تقليد اتبعه كل رئيس أمريكي جاء بعده، لكن لم يحقق أي منهم النجاح الذي حققه في التأثير على الرأي العام. إن المناشدات التي كان يوجهها الزعماء ويتداولها الناس في بيوتهم كانت فعالة بصورة رئيسية أثناء حالات الطوارئ الوطنية. لقد أتقن ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، هذا النوع من المناشدات، لكن فقط في أيام الحرب العالمية الثانية المروعة. وانتظر الرئيس جون إف. كنيدي ستة أشهر حتى جاءته الفرصة لتوجيه أول حديث منزلي للناس، عندما نشبت أزمة برلين عام 1961 (ودبَّ في الناس خوف مفاجئ من نشوب حرب نووية). ومن السهل معرفة السبب في صعوبة استخدام الزعماء هذه الوسيلة لكبح الغريزة الحيوانية المفرطة التي تؤدي في نهاية المطاف إلى حدوث أزمة اقتصادية.
يحاول كل من باراك أوباما وجوردون براون، رئيس الوزراء البريطاني، استخدام الخطاب الأخلاقي نفسه الذي استخدمه روزفيلت، وإن لم يحدثا أثراً كبيراً. يردد أوباما مقولة «الخوف هو الخوف نفسه» ـ قال في أحد خطاباته الأسبوعية في العام الماضي: «إن الأمريكيين لم يبنوا هذا البلد العظيم بالخوف من المستقبل وبتقليص أحلامنا». ويظهر براون على تلفزيون القناة العاشرة وهو يجلس بجانب موقده في داوننغ ستريت، ويتحدث عن المسؤولية والنزاهة العامة. لكن إذا كانت إحصائيات YouTube دليلاً يعتد به، فإن قلة قليلة من الناس تشاهد هذه الأحاديث.
المثال الذي ضربه روزفيلت عام 1933 يوضح أن هذه الجهود يمكن أن تساعد. إن الزعامة لها أهميتها، لكنها يمكن أن تكون فعالة في بعض الأحيان فقط. عندما تكون هناك أزمة الزعامة لا تستطيع أن تزيل كل الأضرار الناجمة عن الافتقار إلى الزعامة في الماضي.
الكاتب أستاذ كرسي آرثر إم. أوكون للاقتصاد في جامعة ييل وأحد مؤسسي MacroMarkets وكبير الاقتصاديين فيها.