الاتجاهات المتباينة حول رفع أسعار الوقود والتجربة الصينية
قبل شهور قليلة طالب عدد من الكتاب خصوصاً المتخصصين في الشؤون الاقتصادية بوقف دعم الدولة لأسعار المشتقات النفطية للحد من استهلاكها الذي تزايد في العقدين الماضيين تزايداً كبيراً لافتاً للانتباه, الأمر الذي جعل المهندس علي بن إبراهيم النعيمي وزير البترول والثروة المعدنية يصرح بأنه إذا استمر النمط الحالي في استهلاك الطاقة في السعودية فإن ذلك سيؤدي إلى التأثير في حجم صادرات الدولة من النفط الخام، وبالتالي سيؤثر في دخل المملكة، وهو ما يراه يستوجب الشروع في بناء برنامج وطني لترشيد استهلاك الطاقة يراعي وضع المملكة ومرحلة النمو التي تمر بها، وضرورة الاستخدام الأمثل للطاقة في القطاعات المختلفة، بما يعكس التكلفة الحقيقية للموارد النفطية واستمرارها للأجيال المستقبلية, وأوضح الوزير النعيمي أن من التحديات المحلية التي لا بد أن نواجهها في سعينا إلى الاستفادة القصوى من قطاع الصناعة النفطية في المملكة ارتفاع نسبة استهلاك المنتجات النفطية في المملكة منذ عام 1990م بمعدل 5 في المائة سنوياً، ونمو استهلاك الغاز الطبيعي بمعدل 7 في المائة سنوياً للفترة نفسها، وكلاهما أعلى من متوسط نمو الناتج المحلي الحقيقي خلال الفترة ذاتها البالغ 3.4 في المائة، وأضاف الوزير قائلاً: «لقد ارتفع معدل استهلاك الطاقة بأنواعها من 3.6 في المائة خلال الفترة من عام 1995م إلى عام 2000م إلى 5.6 في المائة خلال الفترة من عام 2001م إلى عام 2008م، ويعود هذا الارتفاع في كثافة استهلاك الطاقة وفي نموها المطرد في المملكة إلى التوسع الصناعي وانخفاض أسعارها بشكل كبير عن معدلاتها العالمية».
وخصصت جريدة «الاقتصادية» ملفاً خاصاً لهذا الموضوع نشر على 13 حلقة أسبوعية ابتداء من يوم السبت 21/05/1430هـ الموافق 16/05/2009م، ومن قراءة مقالات الكتاب المتخصصين ومحتويات ملف «الاقتصادية» سالف الذكر يتضح أن معظم الاقتصاديين الذين أدلوا بآرائهم في هذا الشأن أكدوا ضرورة وقف دعم الدولة لأسعار المشتقات النفطية للحد من تزايد الاستهلاك والذي وصل إلى مرحلة تدعو إلى القلق. ويزكي أصحاب هذا الاتجاه وجهة نظرهم بأن رفع الدعم عن أسعار الوقود أصبح خياراً اقتصادياُ استراتيجياً لم تجد عديد من الدول مناصــاً من اللجوء إليه لترشيد استهلاك الوقود، كما أن رخص أسعار المشتقات النفطية في السعودية دفع بعض سائقي الشاحنات والصهاريج إلى تهريب مشتقات نفطية سعودية إلى بعض الدول المجاورة لبيعها في أسواق هذه الدول بأسعار أعلى بكثير من أسعارها في السوق السعودية.
وتوجد وجهة نظر أخرى تعارض رفع أسعار المشتقات النفطية خصوصاً البنزين لأن ذلك سيؤدي إلى زيادة تكاليف المعيشة وبالتالي زيادة أعباء المواطنين ذوي الدخل المتوسط والدخل المحدود وإرهاقهم من أمرهم عسراً وأنه يترتب على رفع أسعار البنزين آثار سلبية اجتماعية لا تحمد عقباها، فضلاً عن أنه في ظل الظروف الحالية سيكون رفع أسعار البنزين خطوة غير فاعلة في تخفيض الطلب عليه.
ويوجد اتجاه وسط بين الاتجاهين السابقين سبق أن دعا إليه الكاتب الاقتصادي المعروف الدكتور عبد الرحمن محمد السلطان في مقاله المنشور في جريدة «الاقتصادية» بتاريخ 15/03/1429هـ الموافق 24/03/2008م بعنوان (رفع أسعار الوقود مقابل تعويض)، حيث اقترح رفع أسعار المشتقات النفطية مقابل منح علاوة ارتفاع وقود مماثلة لعلاوة ارتفاع المعيشة التي سبق أن أقرها مجلس الوزراء، تمنح للعاملين في الدولة وطلبة الجامعات والمتقاعدين ومستحقي الضمان الاجتماعي, ويرى الكاتب أن هذه العلاوة تتميز بعدالتها باعتبارها تستهدف الفئات المستحقة كونها تصرف للفرد دون اعتبار لعدد السيارات التي يمتلكها، ومن ثم فإن محدودي الدخل الذين هم غالباً ما يمتلكون سيارة واحدة فقط سيستفيدون مالياً، بينما من يمتلك سيارات عديدة سترتفع عليه التكلفة تبعاً لتزايد أعدادها.
والواقع أنه من الصعب المجادلة في وجاهة مبررات وحجج الاتجاه الداعي إلى رفع أسعار الطاقة خصوصاً البنزين، كما أنه من الصعب تجاهل منطق وجهة النظر المعارضة.
من ناحية أخرى، فإن الاتجاه الثالث الذي دعا إليه الدكتور عبد الرحمن السلطان يبدو حلاً وسطاً يحاول التوفيق بين الاعتبارات الاقتصادية واعتبارات العدالة الاجتماعية. إلا أن علاوة ارتفاع الوقود التي اقترحها الكاتب الفاضل مقابل رفع أسعار المشتقات النفطية محصور نفعها على فئات موظفي الدولة والمتقاعدين وطلبة الجامعات ومستحقي الضمان الاجتماعي ولذلك فإن رفــع أسعار الوقـود في هذه الحالة سيزيد أعباء موظفي القطاع الخاص وأصحاب المهن الحرة كالأطباء والمهندسين والمحامين والمحاسبين، وبالتالي فإن الحل الذي اقترحه لا يشمل نفعه فئات أخرى من المجتمع تستحق رعاية الدولة في هذا الشأن أسوة برعايتها لموظفي الدولة.
وإتباعا للحكمة القائلة (اطلبوا العلم ولو في الصين) فإنني أود أن أسترعي الانتباه إلى وجود اتجاه آخر لحل هذه المسألة أخذت به الصين وأراه جديراً بالدراسة، وكان الكاتب الصحافي المصري المعروف صلاح منتصر قد أشار إليه في عموده اليومي في جريدة «الأهرام» بتاريخ 31/10/2007م، فالصين كانت دولة مصدرة للنفط بكميات قليلة حتى عام 1992م ثم أصبحت دولة مستوردة للنفـط، حيث تستورد أكثر من 3.5 مليون برميل يومياً وتعد ثاني أكبر دولة مستهلكة للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة، ومع ذلك فإن سعر البنزين في الصيـــن يعد أرخص من سعره في أي دولة أوروبية مستوردة للنفط، والسبـــب في ذلك أن الصين تدعم سعر البنزين لمواطنيها بطريقة مختلفة عن الطريقة التي تتبعها كثير من الدول النامية، وتعد أدنى إلى تحقيق العدالة بين المواطنين.
لقد أنشأت الصين صندوقاً لدعم سعر البنزين يموله أصحاب السيارات كل بحسب حجم سياراته، فصاحب السيارة الكبيرة التي تستهلك كمية كبيرة من البنزين يتعين عليه أن يدفع رسم رخصة سير سيارته بسعر يزيد أربعة أو خمسة أضعاف سعر رخصة السيارة الصغيرة، كما تؤول إلى الصندوق أثمان اللوحات ذات الأرقام المميزة التي يتم بيعها في المزاد العلني بمبالغ كبيرة.
وربما تكون الطريقة الصينية في دعم البنزين أكثر ملائمة لأوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية الحالية، فهذه الطريقة تحقق قدراً من العدالة، حيث يتحمل أصحاب السيارات الكبيرة أعباء أكبر من تلك التي يتحملها أصحاب السيارات الصغيرة التي تستهلك وقوداً أقل. وإذا حظيت فكرة هذا الصندوق بالقبول فإنه يمكن تطويرها كأن يضاف إلى موارد الصندوق موارد أخرى خلاف ما ذكر آنفاً مثل فرض رسوم على السيارة عند سيرها على الطرق السريعة التي تربط بيـــن المدن الرئيسة في المملكة، حيث يكون الرسم المفروض على الحافلات وسيارات النقل أعلى من الرسم المفروض على السيارات الخاصة، وأن تستثمر موارد الصندوق في مشاريع إنتاجية وخدمية تحقق نفعاً عاماً للمجتمع.