عندما تأخذ التنمية بمصالح الفقراء
عندما هوت الأزمة الاقتصادية العالمية باقتصادات الدول الكبرى وأوشك الاقتصاد العالمي أن ينهار بفعل ما تعرضت له البنوك والمؤسسات المالية الكبيرة من خسائر مالية كبيرة, سارعت الحكومات إلى تقديم مساعدات سخية وضخمة لهذه البنوك والمؤسسات المالية لإنقاذها من ورطتها وإعطائها الفرصة والموارد اللازمة لإنقاذ نفسها. واستدانت هذه الحكومات وحمّلت نفسها تبعات مالية من أجل تمويل خططها لإنقاذ هذه البنوك, بل إن بعض هذه الدول على وشك إعلان إفلاسها نتيجة لتراكم هذه الديون. خطط الإنقاذ كانت كلها موجهة لإنقاذ البنوك والشركات ولم يخصص إلا القليل من الأموال للمواطنين العاديين الذين هم الأكثر تضررا من الأزمة, فالأغنياء جمعوا من الأموال الكثيرة قبل الأزمة حتى أن مديري هذه البنوك كان الواحد منهم يحصل على ما يقارب 100 مليون دولار كمكافآت سنوية غير الرواتب, وبعد الأزمة تسارع الحكومات لإنقاذ هؤلاء الأغنياء وتنسى الفقراء. هذا الأمر جعل بعضهم يتساءل: هل الاقتصاد العالمي الحالي هو اقتصاد الأغنياء ولا مكان للفقراء فيه غير ما يقدم لهم من مساعدات ومعونات غذائية أم أن الفقراء هم مستهلكون وغير قادرين على القيام بالاقتصاد والنهوض به لأن الأغنياء هم من عندهم المهارات وروح المغامرة والقدرة على توليد الثروة والرفاه للمجتمع؟ في المقابل هناك من يرفض هذه المقولة ويتهم هذا الاقتصاد بأنه اقتصاد غير أخلاقي ولا ينتج لنا تنمية عادلة ومستدامة, وحالة اللاعدالة هي التي أنتجت وستنتج مثل هذه الأزمات وسيزداد حجم الأزمات القادمة وقد لا يكون في مقدور الاقتصاد العالمي مواجهتها, وبالتالي فمن غير المستبعد أن ينهار الاقتصاد العالمي بالكامل وتدب الفوضى في الأسواق العالمية لأن اللاعدالة هي عدم توازن وحالة اللاتوازن نهايتها السقوط الحتمي.
هل فعلا تقديم المساعدة والعون للفقراء هو عمل غير تنموي؟ وهل فعلا الأغنياء هم من يحركون الاقتصاد وهم الشريحة التي تنتج الثروة وتحقق الرفاه للمجتمع؟ هل فعلا التنمية لا يمكن تحقيقها إلا بمزيد من الحرية للأغنياء؟ وهل إيجاد القوانين والأنظمة التي تحد من نشاط الأغنياء هي قوانين معرقلة ومعطلة لعملية التنمية. باختصار هل التنمية هي فعل ينجزه الأغنياء لا يشترك فيه الفقراء؟ وهل العدالة في الاقتصاد مجرد دعوة أخلاقية لا مكان لها في الواقع لأن الأخلاق معطلة لمبدأ التنافس الذي هو من يحرك النشاط الاقتصادي؟
ليس هناك أفضل من لحظة الوقوع في الأزمة للتعرف على طبيعة الأسباب التي أدت إلى الأزمة, لا نتوقع أن نسمع الحقيقة من الذين هم وراء الأزمة ومن تسبب في حدوثها, وليس بمقدورنا أن نسمع الحقيقة حتى من الحكومات لأنها لا تجرؤ على ذلك وهي باتت أضعف وأقل حيلة في مقابل المديرين ومجالس الإدارات. هناك قلة ممن شخصوا لنا أسباب الأزمة, فهم يقولون إن العالم كان يعيش اقتصادا بلا أخلاق, اقتصاد يوهم الناس بحركته, لكنه اقتصاد لا ينتج لنا تنمية حقيقية, اقتصاد ينفخ في فقاعات لتنفجر بعد حين, اقتصاد حول الأموال والثروات إلى أوراق لعب يلهو ويقامر بها من غير اعتبار لحاجات المجتمع. اقتصاد تنتعش فيه الأسواق المالية وتدور فيها مئات المليارات من الدولارات من غير أن يكون لها أثر في تقليص البطالة أو الحد من تقلص الطبقة الوسطى. الفقراء يزدادون حتى في الدول الغنية والطبقة الوسطى يزداد انكماشها وتزاد معاناتها حتى في الدول الأكثر تطورا في العالم مثل أمريكا وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى. فبماذا يفسر هذا الانحدار للطبقة الوسطى؟ وكيف لنا أن نفهم زيادة الفقراء في الدول الغنية وهذه الدول تزداد غنى وثروة؟ هذا الاقتصاد اللاعادل وغير الأخلاقي لم تسلم منه حتى البيئة الطبيعية, فالتصحر يزداد وحرارة الأرض ترتفع والأمطار تتضاءل في مناطق وتتحول إلى سيول عارمة ومخربة في مناطق أخرى, والأعاصير المدمرة يزداد عددها وتزداد قوتها ومستوى البحار يرتفع ويهدد المدن الساحلية والثروة البحرية تتعرض للتهديد بانقراض كثير من أنواعها وصار التلوث موجودا في كل شيء, في الهواء والماء والغذاء, في داخل بيوتنا وخارجها, حتى الفضاء الخارجي صار ممتلئا بنفاياتنا المتبقية من الصواريخ والمركبات الفضائية والأقمار الصناعية التي نرسلها إلى هناك يوميا.
ماذا يعني تنمويا للمجتمع عندما تأخذ التنمية في اعتبارها مصالح الفقراء؟ التنمية المستدامة التي تسمى في بعض الأحيان التنمية العادلة هي التنمية التي لها ثلاثة أضلاع: الاقتصاد, البيئة, والمجتمع. فلن تكون هناك تنمية حقيقية إذا كانت هي فقط تنمية اقتصادية لأنها ستكون تنمية على حساب المجتمع والبيئة الطبيعية. منذ قمة الأرض في البرازيل بدأ العالم يهتم بشكل أكبر بالبعد البيئي في التنمية وعقدت مؤتمرات عديدة للحفاظ على البيئة, لكن البعد الاجتماعي ما زال الاهتمام به محدودا, والدليل هو ازدياد عدد الفقراء في كل الدول الغنية والفقيرة. تفعيل البعد الاجتماعي, أو بعبارة أخرى مصالح الفقراء في الخطط التنموية له عوائد كبيرة وسنذكر جملة من هذه العوائد ولو بشكل مختصر:
1- النهوض بالفقراء والاهتمام بتطويرهم يعود على الاقتصاد بفوائد كثيرة, فهم شريحة بتطورها يزداد الطلب على المنتجات الاقتصادية من سلع ومنتجات, وهي طبقة ستكون لها مساهمة بمد الأنشطة الاقتصادية بالعمالة الماهرة, فحتى البنك الدولي أشار في أحد تقاريره إلى أن النهوض بالفقراء سيعزز نسب نمو الاقتصاد العالمي, فعند الفقراء فرص ومخزون اقتصادي ينتظر من يستثمره, ولعل التجربة الهندية, وكيف أن تطور الفقراء ساهم كثيرا في تطوير الاقتصاد الهندي خير درس لنا في هذا المجال.
2 ـ عدم الاهتمام بالفقراء يعني تفاقم مشكلة الفقر في المجتمع واتساع هذه الشريحة في المجتمع وتنامي الإحساس بعدم العدالة بين أفراد هذه الشريحة يمهدان إلى حالة عدم الاستقرار ويهيئان البيئة التي تهدد السلم الاجتماعي. فلا يستطيع مجتمع ما أن يشعر بالأمن والسلام وهناك أعداد كبيرة منه فقراء لأن الفقر هو وقود لانتشار الجريمة والمجتمعات الفقيرة هي اليوم حواضن للإرهاب أيضا, فالدول الغنية باتت اليوم أكثر اقتناعا وبعد عقد من الزمن أن التنمية الموجهة إلى الدول الفقيرة هي خير سلاح للقضاء على الإرهاب, فالإنسان الفقير أو الجائع لا يهاب الطائرات والصواريخ والقنابل الموجهة لأنه ليس عنده شيء يخاف أو يحرص عليه أو يريد الحياة من أجله. الفقر يقتل الأمل والرغبة في الحياة عند الإنسان وهكذا إنسان تحركه الرغبة بالانتقام أكثر مما يخيفه الموت. إذا كان الاستقرار العالمي مهددا بمحنة الفقر فإن المجتمعات هي الأخرى لن تنجو إذا لم تأخذ في تنميتها مصالح الفقراء.
3 ـ التنمية الحقيقية هي التي تتوجه للإنسان, واليوم يقاس وزن الشعوب والأمم بعدد عقولها, وبالتالي لنا أن نتصور العوائد التي قد نحصل عليها عندما نهتم بتعليم وتدريب وتطوير الفقراء, فكم من المبدعين والعباقرة والمفكرين الذين هم الكنوز الحقيقية مخفية تحت ركام الفقر, فالفقراء هم بالتالي قدرات إنسانية عطلها الفقر, والتنمية في أهم محاورها هي إتاحة الفرصة لهؤلاء الناس الفقراء للحصول مثل غيرهم على هذه الفرص.
وأخيرا يمكن القول إن الاهتمام بالفقراء وتنميتهم هي عودة بالمجتمع كأحد المحاور المهمة والرئيسة في التنمية, وهي أنسنة لعملية التنمية, فتنمية يتلاعب بها الأغنياء هي تنمية متوحشة وسيكون حتما مصيرها أزمة تليها أزمة أكبر منها حتى يسقط الاقتصاد العالمي وينهار بفعل هذه الأزمات.