أبي، أمي: ألا أستحق الرحمة؟!

.. هل ولاية الأمر للأبناء مطلقة، حتى في الأمور السالبة التي يتفق الجميع، أو الرأي المنطقي السليم على أنها خاطئة؟ وسأترك السؤال الثاني في نهاية المقال.
امرأة تعمل في سلك التعليم وصلتني منها رسالة تقول إنها ستتجاوز الـ 30 عاما، ولم تتزوج بعد، والسبب أن أباها كما تقول: «يختلق حُجَجا غريبة في كل مرة عندما يتقدم لي أحدٌ أرضاه وأرغبه زوجاً، وفيه كل مقومات الرجل الصالح»، وغنيٌ عن الذكر أن الأبَ هو الذي يتسلم الراتبَ مباشرة، فعنده بطاقة ابنته مع الرقم السري، وتقول: «هل تعلم أنني لم أر حتى رقم راتبي منذ أربع سنوات؟ ولا أعتقد أني سأراه، فليس في الأفق ما يوحي بأن أبي سيتخلى عن الراتب».الأعجبُ، كما تشرح في رسالة طويلة مؤثرة، أن أباها ليس فقيرا على الإطلاق، فهو يملك عملاً خاصا يدرّ عليه مالاً كافياً، كما أنه متقاعد ودخله الشهري يتجاوز عشرة آلاف ريال.. «وأضف إلى ذلك أنه لا يصرف على عائلة كبيرة فكل إخوتي يعملون، ما عدا بنتاً وولداً في الثانوية». وتضيف: «إني لا آبه لراتبي الذي يأخذه أبي بالكامل، صحيحٌ أن لي حاجات مثل أي فتاةٍ تريد أن تكون في أحسن إهاب، ولكنه أبي وكل ما أكسب حلالٌ عليه إن أراده كله، ما دمت في بيتِهِ آكلُ وأشرب وألبس، مع تحفظي في مسألة اللباس هذه كثيرا!»، ولكن أن يعضلها عن الزواج وتكوين حلمها الأكبر، وهو تكوين عائلة لها، فإن هذا «ما لا أطيقه أبدا.. لا أريد أن أقضي بقية حياتي عزباء وحيدة أبكي سوءَ بختي». وبقية الرسالة ليست حروفا وكلماتٍ بل دموع وصرخات.
ومن شابٍ يقول إنه يحب جماعة يقول إنها صالحة ومتديّنة، وإن أباه لا يطيقهم ويمنعه من مخالطتهم، ويشرح الشابُ عن أخلاقهم وحسن معشرهم، وطهارة أردانهم، ولكن أباه لا يطيقهم وبلا نقاش، ولا يتحمل أن يراهم في بيتهم، مما يضع الشابَّ في حرج أمام أصدقائه المفضلين، والذين كما يقول: «بفضل الله ثم بفضلهم أقلعتُ عن التدخين، وكان أبي لا يراني أدخن، ولكنه يعلم بطريقته أني أفعل، وكان ينهرني بطريق غير مباشر، ولم يتعد الأمر ذلك الزجر والنهي غير المباشرين، وبعد أن تعرفت على مجموعة الأصدقاء هؤلاء، امتنعت مع الوقت عن التدخين من دون أن يومئ أحدهم إلي بذلك ولا حتى إيماءة صغيرة، وتغيرت حياتي بالكامل، وصرت أنظر للحياة بنضوج أوسع، وتفوقتُ في دراستي، ولاحظ الجميعُ ارتفاع معدلاتي في كليتي التي أدرس فيها في السنة الرابعة. على أن الموضوع مع أبي كبُر جدا، وكأني أرتكبُ أكبر خطيئةٍ يرتكبها ابنٌ بحقّ أبيه، فأقسم على طلاق والدتي إن دخلوا بيتنا مرة أخرى، وأنه لن يقبلني في البيت إن دامت علاقتي معهم.. على أني داومتُ أراهم، لأني لا أستطيع أن أستغني عنهم، وعلم أبي بذلك، فطردني من المنزل.. وبقية الرسالة محرّكة للشجَن، يشرح فيها كيف يعيش حاليا يلتقط أنفاسَه كل يوم بصعوبة للاستمرار، وأن أمَّهُ أدخلت المستشفى لهزةٍ عصبية، على أن الأبَ لا يلين.
وفتاةٌ تقول إن أمها قاسية معها كما تشرح بلا سبب، وإنها الآن في الخامسة والعشرين، وما زالت تضربها بالحذاءِ لأي سبب، بل إن آخر مرة ضربتها بها أدخلت المستشفى، والسبب لأن الأم اشترت حقيبة غالية ثم علمت أنها مقلدة في مزاد، فصبت جام غضبها على البنت لأن دعوة الحفل كانت باسم البنت وأخذتها الأم عنوة وذهبت هي، ولما حصل ما حصل لامتها وضربتها ضرباً مبرحا أجبر أباها على أن يأخذها للمستشفى، والأغربُ كما تقول: «إن أمي لما سألتنا الطبيبة عن الرضوض كادت أن تقول صراحة إن أبي هو السبب، على أن تلميحها كان كافياً.. وبقية الرسالة شكوى مُرّة، وتساؤل تضرعي عن حل.
وفي بلدان متناثرة على الكرة الأرضية يترك آباءٌ أولادَهم وبناتهم، بعد أن تزوجوا بصكوكٍ موثقةٍ وواضحة، بل وعاشوا ردحا مع أسرهم، يتركونهم لأعنف ضروب ظروف الحياة، بل حتى يتلبسوا ديناً جديداً، وعاداتٍ أخرى، ويضيعوا في أسواق النخاسة، والمخدرات والإجرام والتيه، لأنهم محصّنون من السؤال، وهم في رأيي يرتكبون واحدة من أعظم الجرائم الإنسانية، كل يوم أسأل نفسي عن البنت فاطمة التي تركها أبوها السعودي، وقابلتها وهي في الثانية عشرة تدور في الأسواق تقدم خدمات التدليك في أسواق مانيلا.. وبعد سنتين، لما عدتُ أبحث عنها، قيل لي إنها ماتت بعد معاناة من مرض الإيدز.. يا إلهي ما أفظعها من ذكرى لا تزول ولا تنمحي، وكانت فاطمة هي الشعلة التي احترقت لتنير نحو تأسيس «رابطة العودة للجذور» هناك.. إننا الآن نحاول بكل ما نملك من قدرة على الإقناع أن يُعتـَمَد اختبارُ «الدي إن إي» على الآباء الذين ينكرون أولادَهم كإجراءٍ لازم، ولا نقصد كل من يدعي، بل الأبناء الذين تملك أمهاتهم وثائقَ زواجٍ وولادةٍ وصوراً فوتوغرافية من الحياة المشتركة، أي كل الدلائل القوية، ولم يتحقق ذلك حتى الآن.. وكنتُ قد عاهدتُ نفسي، وبكل قدراتي، وبكل ما أمكنني، ألا تتكرر مأساةُ فاطمة أخرى!
يبقى السؤالُ الثاني.. ليس مني، بل من هؤلاء الذين يجأرون إلينا بالشكوى الملتهبة بأن ننقذهم، بأن نفعل من أجلهم شيئاً.. أي شيء. والسؤالُ هو: هل نستطيع أن نحتج؟ هل نستطيع أن نـُنْصَف من ولاةِ أمورنا عندما يتعمدون إفساد حياتنا؟
ويبقى مصطلحُ «ولي الأمر» سوراً عاليا لا يمكن أن يتجاوزه أي قانون.. فأخبروني أنتم ماذا عسانا فاعليون؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي