اليابان وقائدها الدكتاتوري العسكري السري

مع انتهاء مرحلة شهر عسل ما بعد الانتخابات العامة، أصبح الرأي العام الياباني مدركاً على نحو متزايد لحقيقة مفادها أن ايشيرو أوزاوا الأمين العام للحزب الديمقراطي الياباني الحاكم هو مُحَرِّك الدمى الذي يحرك مجلس رئيس الوزراء يوكيو هاتوياما.
ورغم أنه ينأى بنفسه عن صناعة القرار السياسي الرسمي داخل السلطة التنفيذية، فإن أوزاوا في الواقع هو العقل المدبر وراء العملية التشريعية برمتها، بما في ذلك الميزانية وتخصيص الموارد المالية. ولقد نجح أوزاوا في تركيز الاتصالات بين الحزب الديمقراطي الياباني وجماعات الضغط في مكتبه بالبرلمان. وهو يُحكِم قبضته أيضاً على تخصيص الدعم الذي يحصل عليه الحزب الديمقراطي الياباني من الدولة وتوزيعه على المشرعين الأفراد في الحزب. ومن المؤسف أن هاتوياما لا يسيطر إلا على ميدان السياسة الضيق.
إن أسلوب أوزاوا السياسي هو أسلوب معلمه نفسه رئيس الوزراء الأسبق كاكوي تاناكا (1972-1974)، الذي أصبح لمدة طويلة رئيساً لأكبر فصائل الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم سابقاً بعد استقالته من منصبه في أعقاب اتهامه بالرشوة. وإلى جانب فصائل أخرى، كان تاناكا يتحكم في الأغلبية داخل الحزب الديمقراطي الليبرالي، وظَل صاحب النفوذ السياسي الأعظم في الحزب والشخص الذي يحرك خيوطه مع تعاقب حكومات الحزب الديمقراطي الليبرالي المختلفة، فعمل على صقل التركيبة شبه الديمقراطية الاجتماعية التي تعتمد على النمو القائم على التصدير وإعادة توزيع ثروات الدولة. وأخيرا قام أوزاوا بزيارة إلى قبر تاناكا، وهي الزيارة التي حرص على بثها على شاشات التلفاز لتصوير نفسه أمام الجمهور بوصفه وريث تاناكا.
وبعد ما أصاب الحزب الديمقراطي الليبرالي من التصلب التنظيمي، قرر أوزاوا، ومعه ما يربو على الأربعين من زملائه المشرعين من المنتمين إلى فصيل تاناكا، الانفصال عن الحزب في عام 1993، في محاولة لتأسيس نظام ثنائي الحزبية. منذ ذلك الوقت، وإلى أن انتصر الحزب الديمقراطي الياباني في انتخابات مجلس الشيوخ في عام 2008، كان أوزاوا على نحو دائم تقريباً في قلب المعارك السياسية ضد الحزب الديمقراطي الياباني، يعمل على بناء آلة سياسية فعّالة من خلال تحقيق أقصى قدر من الاستفادة من فن المحسوبية. والواقع أن أوزاوا نجح في تأسيس واحد من أضخم الاحتياطيات المالية مقارنة بأي حزب سياسي آخر، وذلك بالاستعانة بتكتيكات تذكرنا بأساليب تاناكا: ثلاثة من مساعدي أوزاوا السياسيين الحاليين والسابقين اعتقلوا أخيرا بتهمة توجيه العمولات من شركات الهندسة المدنية والإنشاء إلى عمليات جمع المال التي ينفذها أوزاوا.
ومن عجيب المفارقات هنا أن القوة التي يتمتع بها أوزاوا كانت ناتجة عن صعود وسقوط جونيشيرو كويزومي رئيس الوزراء والحزب الديمقراطي الليبرالي. فبعد أن تعهد كويزومي بتدمير الحزب الديمقراطي الليبرالي القديم، سارع إلى تنفيذ إصلاحات مثالية أسفرت عن حرمان جماعات المصالح الخاصة من مغانمها، الأمر الذي عجل بإضعاف الحزب الديمقراطي الليبرالي. ومن وراء الشعارات المناصرة للإصلاح والتي رفعها كويزومي دار صراع بين فصائل الحزب وفصيل تاناكا المهيمن، الذي كانت آلته السياسية وجماهيره الانتخابية التي بدت وكأنها لا تقهر ترتكز على الأشغال العامة التي تشارك فيها جماعات المصالح الخاصة، وعلى نحو خاص شركات الهندسة المدنية والإنشاءات.
لقد اقتطع كويزومي جانباً كبيراً من الميزانيات لصالح الأشغال العامة وتخلى عن سكان المناطق الريفية، التي كانت تعتمد على مجموعة متنوعة من برامج إعادة التوزيع. بل لقد سعى إلى كسب ود أغلبية انتخابية تتألف من ناخبي المدن والضواحي الذي يتسمون بالتقلب.
ولكن رغم نجاح كويزومي في إلحاق الهزيمة بفصيل تاناكا داخل الحزب الديمقراطي الليبرالي، فإن عديدا من أتباع تاناكا، تحت زعامة أوزاوا، تمكنوا من إعادة ترسيخ أقدامهم من خلال استعمار الحزب الديمقراطي الياباني والاستيلاء عليه. ومن غير المستغرب، بعد توقف إصلاحات كويزومي، وجنوح حكومات الحزب الديمقراطي الليبرالي تحت قيادة رؤساء الوزراء المتعاقبين شينزو آبي، وياسو فوكودا، وتارو اسو، عن مسارها، أن ينجح اقتراح أوزاوا بإعادة توزيع الثروة في الفوز بقلوب وعقول الناخبين في المناطق الريفية، بل وأيضاً سكان المدن الساخطين على شبكة الأمان الاجتماعي المتهالكة.
والآن بعد فوز الحزب الديمقراطي الياباني بآخر الانتخابات في مجلسي النواب والشيوخ، فقد أصبح فصيل أوزاوا هو الأضخم على الإطلاق داخل الحزب. وهناك فضلاً عن ذلك عديد من قدامى أتباع تاناكا في مجلس الوزراء، بما في ذلك هاتوياما ذاته ووزير الخارجية كاتسويا أوكادا.
والآن بدأ جمهور الناس يتحرر على نحو متزايد من سحر الحزب الديمقراطي الياباني، الذي كان ينتظر منه إعطاء دفعة قوية للسياسة اليابانية. ولكن ما حدث بدلاً من ذلك هو أن البلاد أصبحت في مواجهة تهديد خطير بعودة شكل محلي من أشكال الحرب الباردة. ففي الماضي كان الحزب الديمقراطي الليبرالي والحزب الاشتراكي الياباني يضعان قناعاً على مواجهاتهما الأيديولوجية، على الأقل علناً، في حين يلجأ كل منهما إلى عقد الصفقات السرية بعد مفاوضات من وراء الكواليس. وكان هذا من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى هيمنة نظام الحزب الواحد، حيث ظل الحزب الديمقراطي الليبرالي محتفظاً بالأغلبية في البرلمان في حين قنع الحزب الاشتراكي الياباني بوضع حزب المعارضة الأكبر.
واليوم، يتعامل أوزاوا وقدامى أتباع تاناكا والحزب الديمقراطي الياباني، الذين يتزعمون حزباً تتألف أغلبيته من مشرعين هواة منتخبين حديثاً، بشكل مباشر مع الاشتراكيين السابقين وغيرهم من الشعوبيين المنشقين عن الحزب الديمقراطي الليبرالي، في كل من مجلس الوزراء والبرلمان. ولا عجب إذاً أن يكون بين النظامين عديد من السياسات المحلية والخارجية/ الأمنية المشتركة.
لقد اتخذ ممثلو الادعاء حتى الآن موقفاً عدوانياً في التعامل مع القضايا التي تورط فيها مساعدو أوزاوا، تماماً كما حدث مع تاناكا من قبل. ولكن أوزاوا يظل محتفظاً بروحه القتالية، فيشير إلى أن الجانبين منهمكان في مباراة في الحقد والضغينة ـ وهو يعلم أن فصيله قادر على التدخل عبر الحزب الديمقراطي الياباني الحاكم لقلب الأوضاع في مكتب المدعي العام. وفي موسم السخط السياسي في اليابان، يبدو الأمر وكأن لا جديد تحت الشمس.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي