أولادنا والبحث عن وظيفة في الوطن!
منظر متكرر ومخيف ومحزن يتمثل في محمد ونورة، اللذين تخرجا من الجامعة صيف 1426هـ في تخصص الصيدلة. محمد ونورة مثلهما مثل مئات الآلاف من العاطلين والعاطلات في بلدنا الحبيب، كلهم ما زالوا يبحثون عن وظائف سواءً في القطاعين العام أو الخاص، لإعالة أنفسهم وبناء مستقبلهم الشخصي والأسري. في البحث عن وظائف محمد ونورة وجدا، ومن المفارقات والتناقض والعجب، ليس فقط وظائف مشغولة بأجانب، بل مزاحمة عناصر أجنبية عاطلة عن العمل (مقيمة في المملكة)، وهذا يحدث في المملكة وليس في دول خارجية. ومع عدم وجود وتفعيل حلول عملية ووطنية لمعالجة مشكلة البطالة، ما زال محمد ونورة في رحلة البحث عن المجهول.
البطالة في المملكة ليست مجرد ظاهرة بسيطة وإنما، وعلى مدى عقود، أصبحت تمثل مشكلة وطنية كبيرة بجميع أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية. أرقام ونسب البطالة المعلن عنها (وهي متحفظة جداً) تشير إلى وجود مئات الآلاف من العاطلين والعاطلات. ومن الواضح أن هناك اختلافات في تقدير أرقام ونسب البطالة، وخصوصاً بين ما يصدر من وزارة العمل وجهات أخرى، مثل وزارة الشؤون الاجتماعية وغيرها، مما يعني وجود خلل في مصادر وطرق الحصول على بيانات البطالة، وهذا يؤثر سلباً في أي قرارات تتخذ في موضوع البطالة. فوزارة العمل تعمل بشكل منعزل عن وزارة الخدمة المدنية، وكأن كل وزارة تتعامل مع سوق عمل منفصل، وليس سوق العمل السعودي. إن وجود وزارتين تتعاملان مع سوق العمل، في حد ذاته يسهم ويزيد من مشكلة البطالة.
العاطلون عن العمل هم أولادنا وليسوا أجانب، هم مسؤوليتنا وليسوا مسؤولية الغير. هل يحصل أولادنا العاطلون عن العمل على دخل مؤقت لمقابلة أعباء الحياة؟ من أين يحصلون على دخل مالي؟ من آبائهم؟ من أمهاتهم؟ من إخوتهم؟ من أصدقائهم؟ من آخرين؟ وهل هذه المصادر ثابتة ومستمرة وبديلة عن الحصول على وظيفة؟ هل هناك مشكلة في الاقتصاد الوطني مما يؤدي إلى محدودية الوظائف المتاحة؟ هذه الأسئلة وغيرها تحتاج إلى وقفات صادقة وتقييم من الجهات الرسمية المسؤولة عن التوظيف بشكل مباشر أو غير مباشر. المجلس الاقتصادي الأعلى، التربية والتعليم، التعليم العالي، المالية، الشؤون البلدية والقروية، التجارة، الهيئة العامة للاستثمار، العمل، الخدمة المدنية، الشؤون الاجتماعية، صندوق الموارد البشرية، ومؤسسة النقد والبنوك، وغيرها من الوزارات والمؤسسات والهيئات الحكومية، كلها تعمل في مجالات تؤثر في سوق العمل في السعودية.
لا شك أن هناك جهوداً ومحاولات من كل هذه الجهات لحل مشكلة البطالة، ولكنها تظل جهوداً ومحاولات فردية لا ترقى إلى حالات العمل المؤسساتي، بل في حالات كثيرة تزيد من مشكلة البطالة. فعلى سبيل المثال، كان هدف صندوق الموارد البشرية، تشجيع القطاع الخاص على توظيف العامل السعودي من خلال تحمل جزء من تكلفة العمل لمدة زمنية معينة، إلا أن هذا النموذج من أدوات تحفيز توطين الوظائف لم ينجح بالشكل المطلوب، وهذا ما يتضح من خلال تزايد أعداد ونسب العاطلين عن العمل، ومنهم ممن تم توظيفهم في برامج صندوق الموارد البشرية في السابق. وفي الجانب الآخر، تعمل وزارة التجارة مشكورة على إصدار تصاريح وسجلات تجارية لمواطنين ومواطنات في جميع المجالات ومنها المكاتب العقارية والخدمات والتجارة والمقاولات وغيرها، إلا أن كثيراً من هذه النشاطات حقيقة ترجع إلى مستثمرين أجانب أو موظفين في الدولة (تستر). كما أن سهولة الحصول على تأشيرات عمل وبأعداد كبيرة لمواطنين وغيرهم تزيد من حجم مشكلة البطالة.
وإذا نظرنا أيضاً إلى الهيئة العامة للاستثمار، فإننا نلاحظ نجاحات في عدة جوانب ومن أهمها تهيئة وتحسين البيئة الاستثمارية للمستثمر الأجنبي، وجلب عدد من الاستثمارات، مع التأكيد على أنه ما زال هناك مزيد من العمل المطلوب وخصوصاً في نوعية الاستثمار المطلوب وحجمه. وفي المقابل، ومع الاستثمارات الأجنبية والتسهيلات ومنها نسبة السعودة ومنح تأشيرات عمالة، نرى أن هناك زيادة في العمالة الأجنبية على حساب العنصر المحلي. والكلام نفسه ينطبق أيضاً على جهود وزارة الشؤون الاجتماعية في دعم الأسر الفقيرة، ووزارة التجارة في منح الرخص والسجلات التجارية للمتقدمين، والأمانات والبلديات في منح الرخص للمحال وغيرها، ووزارة الخدمة المدنية فيما يخص التوظيف وغيرها من الجهات الحكومية ذات العلاقة.
وقد يرى القطاع الخاص والمستثمر الأجنبي ضعفاً في العامل السعودي من حيث المهارات والتأهيل المطلوب، وخصوصاً عند مقارنتها بالعامل الأجنبي. وهذه وجهة نظر نحترمها ولكننا لا نتفق معها كلية. نعم هناك إشكالية في مخرجات التعليم العام والتعليم الجامعي، يصحبها تنامي ثقافة الكسل، واللامسؤولية، وعدم الجدية والانضباط، والاعتماد على المحسوبية والواسطة في الحصول على الوظائف لدى جزء كبير من أفراد المجتمع، وخصوصاً بين جيل الشباب. وإذا سلمنا جدلاً بصحة وجود هذين العاملين، ضعف التأهيل وانتشار ثقافة لا تشجع على العمل، وسمحنا للقطاع الخاص سواء المحلي أو المستثمر الأجنبي بالاعتماد على الأجنبي (وهو ما يحصل في الوضع الحالي)، فكيف نتصرف ونتعامل مع مئات الآلاف من الباحثين الحاليين (والمتوقعين) لوظائف من أولادنا؟ هل نتركهم، كما هو حاصل الآن، دون توفير فرص حقيقية ومستقبل منير وواعد في سوق العمل؟ إن وجود شراكة استراتيجية بين الدولة والقطاع الخاص ليس في جانب توفير فرص عمل فقط، بل في جميع الجوانب مطلب استراتيجي ووطني. ومتى تم العمل جماعياً وفي سبيل تحقيق مصلحة الوطن، وليس مصالح منفردة أو شخصية، فسوف، بمشيئة الله، يتحقق النجاح والرقي للوطن.
على مدى جميع الخطط الخمسية السابقة (أكثر من 40 سنة)، ما زال العمل الفردي، وغياب التخطيط الاستراتيجي، والتركيز على مشاريع ومكاسب وقتية، والرغبة في النجاحات الشخصية تغلب على طريقة ومنهجية عمل بعض المسؤولين في القطاعات الحكومية سواءً فيما يخص التعامل مع التوظيف، أو تقديم الخدمات، أو تنفيذ المشاريع الاستراتجية وغيرها. ودون إعادة النظر في طريقة إدارة العمل الحكومي لضمان مستوى عال في الأداء، والكفاءة، والتكامل بين القطاعات، ستستمر الإخفاقات والفشل ـ لا سمح الله ـ ومنها زيادة مشكلة البطالة. أما حث ومطالبة القطاعات الحكومية برفع مستوى الأداء والتعاون والتنسيق في أعمالها ومشاريعها، ومنها حل مشكلة البطالة، دون وجود مرجعية تنظيمية وإشرافية ونظام يضمن التنسيق والتكامل وتنفيذ الخطط الاستراتيجية للدولة، فلن يؤدي إلى أي تقدم في حل مشكلات التنمية والنمو أو حل مشكلات أخرى مثل البطالة.
وهنا نؤكد حقيقة مهمة وهي غياب التنسيق والعمل الجماعي المؤسساتي بين هذه الجهات. ولعل عدم التشخيص الصحيح لمشكلة البطالة، وتقبلها، وتقدير حجمها وآثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والنفسية من أهم العوائق التي تقف أمام تطوير وتنفيذ حل شامل لمشكلة البطالة. ومن أهم مشاهد غياب التنسيق عدم وجود خطة استراتيجية وطنية يتم على أساسها تحديد مدى التزام وتمشي كل جهة حكومية معها. كما أن غياب تبادل المعلومات بين هذه الجهات وعدم وجود بيانات دقيقة ووقتية يمكن استخدامها في تحسين القرارات في كل جهة يزيدان من مشكلة البطالة.
وكما تحدثنا سابقاً حول ضرورة الاستعانة والاعتماد على مركز المعلومات الوطني في مشروع التعداد السكني، فإننا ندعو أيضا هنا إلى الاعتماد على مركز المعلومات الوطني في الحصول على بيانات دقيقة ووقتية عن أعداد ونسب البطالة. وقد يكون من المناسب، تكوين فريق عمل يتبع خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - مباشرة، لدراسة وتقييم سوق العمل السعودي من جميع جوانبه، ووضع خطة عمل لمعالجة مشكلة البطالة.
وللحديث بقية.