محنة اليمن السعيد

 يعيش شقيقنا اليمن السعيد هذه الأيام ظروفاً سياسية واجتماعية واقتصادية غاية في الصعوبة، تُهدد كيانه ومستقبله ووحدته. وندعو الله جلت قدرته أن يحفظ بلادنا وبلاد اليمن وسائر بلاد العرب والمسلمين من كل شرِّ وسوء عاقبة، إنه قادر على ذلك. فاليمن مُهدد من داخله وخارجه. الانقسامات السياسية الداخلية والحياة القبلية لمعظم سكانه تجعلان منه مرتعاً خصباً لحدوث أنواع من الفوضى والدمار والتفرقة بين فئات الشعب، وإلى حد ما التدخل الخارجي الذي لا يريد خيراً للشعب اليمني الشقيق. ومما يزيد الطين بلة، قلة الموارد الاقتصادية والزيادة الكبيرة لعدد السكان، وهو شائع أيضا في بلدان عربية أخرى. ويقع اليمن في منطقة ساخنة وقريب من أراض تعمها الفوضى السياسية والاجتماعية وتُمزق أوصالها الحروب العشوائية مثل بلاد الصومال، مما جعلها ملجأ لمن يستطيع الإفلات والهجرة من المواطنين الصوماليين ويصل سالماً إلى اليمن الذي هو بدوره يُعاني شحا شديدا في المعيشة. ومن سوء حظ اليمن، أنه حتى الشباب الصومالي الذي نشأ وترعرع في أحضان المتحاربين ومحترفي القرصنة البحرية هناك وجدوا طريقهم إلى الشواطئ اليمنية الطويلة المفتوحة مُهددين بالتدخل في الشؤون اليمنية الداخلية بانضمامهم إلى أحد الأطراف المتنازعة داخل اليمن ضد الطرف الآخر، وهو تصرف أقل ما يمكن أن يُقال عنه إنه أبعد ما يكون عن الحكمة.
 وعلى الرغم من عراقة الشعب اليمني وعمق جذوره في التاريخ ومروره بمراحل حضارية خلال آلاف السنين وتمتع أبنائه بالنشاط والرغبة في العمل المُنتج، إلا أنه لا يزال شعبا قبليا، تحكمه العادات والأعراف القبلية. فالولاء في الغالب لشيوخ وزعماء القبائل التي تحتل كل منها مناطق معينة ومُحدَّدة في جهات اليمن، تفصلها عن بعضها الجبال والمرتفعات الشاهقة وفي بعض المناطق الساحلية التي توجد فيها منافذ ملاحية. ومع تضارب المصالح التي لا يخلو منها أي مجتمع قبلي، إلا أن السلطات المركزية في اليمن عبر التاريخ استطاعت أن تُوفق بين فئات الشعب المختلفة وتُدير شؤون البلاد، ولكن بصعوبة ومع كثير من المجاملات والمهادنات التي لا بُدَّ منها من أجل تسهيل أمور الحكم. وكما يعلم الجميع، فإن العصر الحديث وإلى عهد قريب، شهد قيام دولتين متجاورتين في اليمن، إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب، بعد انفكاك الأخير من الحماية البريطانية. وسرعان ما اتفق الطرفان، الشمالي والجنوبي على الاتحاد في دولة واحدة رحب بها جميع أهل اليمن وبقية الدول العربية المجاورة لليمن، حيث كان من المتوقع أن يتشارك الإخوة في بناء وطن كبير ومزدهر يسعد فيه كل مواطن. ولكن المصالح الشخصية والنزوات الفردية لم تترك مجالاً كبيراً لفرص السلام، فأخذ البعض يُنادون بالانفصال ويحاربون من أجله، وهذا يعني تجزئة اليمن مرة ثانية إلى دويلات مآلها إلى فقر أشد وربما إلى حروب طاحنة بين أبناء الوطن الواحد تُضعف قوتهم وتأتي على الرطب واليابس. وهذا ما يتمناه أعداء اليمن وأعداء الأمة العربية الذين دائما يتربصون بنا الدوائر.  ولعل آخر ما يتمناه الإخوة اليمنيون في هذا الظرف الحرج ما هو حاصل اليوم من تمرد وعصيان على الدولة المركزية من جانب فئة قليلة من الشعب اليمني، مُحاولين زعزعة الأمن دون أهداف واضحة. فلا نعلم إن كان هدفهم الأساسي هو الاستيلاء على الحكم لدوافع تاريخية أو المشاركة في الحكم أو الاستقلال تحت مظلة حكم ذاتي، أو ربما لمجرد الاحتجاج على سوء الأحوال المعيشية في مناطقهم. ولكنهم يشنون على السلطة حرباً شرسة مما اضطر الحكومة إلى أن تُقابلهم بالمثل. وكانت النتيجة آلافا من القتلى والجرحى  من الطرفين ودمارا شاملا وتشريد مئات الألوف من المواطنين وتدمير البنية التحتية في مدنهم وقراهم، وهو عمل شنيع في بلد فقير تعوزه أقل الموارد الاقتصادية ولا يُبرره أي مطلب من جانب المتمردين. فهم الآن وضعوا أنفسهم في مأزق ويبحثون عن مخرج، وأنَّى لهم ذلك دون تسليم كامل وانصياع لسلطة الدولة. ويظهر أنهم كانوا قد وقعوا ضحية لتعاطف مُزيَّف مع قضيتهم من قِبل أطراف أجنبية لها مصالح إقليمية، مدَّتهم بالمال والسلاح والدعايات الإعلامية. بل ربما أن تلك القوى الأجنبية كانت قد أغرتهم بالتسلل إلى بلادنا عدوانا منهم وأدخلتهم في موقف حرج أكبر من حجمهم، حيث تلقوا بعده درساً قاسياً لن ينسوه. ومن سوء الحظ أن هذه الإرباكات لدولة اليمن التي تزامنت مع حدوث الانقسامات الداخلية الخطيرة والحرب المفروضة عليها من الفئات المتمردة، صاحبها أيضا تسلل من قِبل جماعات إرهابية لتُؤسس لها قواعد ثابتة تنطلق منها إلى أهدافها التخريبية داخل البلدان المجاورة وأخرى خارجية، مُستغلين طبيعة التركيبة السكانية القبلية في بلاد اليمن، وهو ما أثار حفيظة الحكومة اليمنية وجعلها تُلاحقهم في مخابئهم رغم انشغالها بأمور أمنية خطيرة، وذلك قبل أن يستفحل أمرهم ويصعب القضاء عليهم. ولأن أمن أي بلد مُجاور لنا هو أمن لنا، فمن المقبول أن نقف بجانب جيراننا ونحاول بقدر المستطاع مد يد العون لهم والتدخل سلمياًّ وإيجابياًّ لمساعدتهم على حل نزاعاتهم الداخلية.
 وعلى وجه العموم، فإن الوضع اليمني اليوم مُتدهور وفي حاجة إلى كثير من الحكمة وحسن التصرف من جميع الأطراف، سواء منها منْ هم على رأس السلطة الحاكمة أو المتمردين على السلطة أو دُعاة الانفصال، إذا كان الجميع يريدون خيراً لبلادهم ولمستقبل شعبهم. وإذا كان أحد من خصوم الدولة يظن أن تقسيم  بلادهم إلى مناطق مُستقلة عن بعضها سيجلب لهم الرخاء أو دخلا وفيرا، فهذا لن يتحقق، وحدوث العكس أقرب إلى الواقع. والاتهامات التي تطلقها بعض المجموعات ضد الحكومة بأنها غير عادلة في رعايتها لجميع فئات وطوائف الشعب اليمني، ربما فيها شيء من الصحة، ولكن يجب علينا ألا ننسى أن هذه أمور نسبية ولا يمكن التحقق من وجودها. ومن الذي يضمن لأي مجتمع، سواء في اليمن أو غيره من المجتمعات الأخرى، أن المسؤولين الجدد الذين سيتولون السلطة في مناطق الانفصال سيكونون أكثر جدارة وإخلاصاً وأماناً من سابقيهم؟ ولا بأس من النقد الهادف والمطالبة بالتغيير بالطرق السلمية التي يسمح بها دستور وقوانين الدولة، مع البعد عن العنف والاقتتال، الذي أقل ما يوصف به أنه ''يجلب الفشل ويذهب بريح المجتمع''.
وإذا كان هناك من نصيحة أخوية نُهديها إلى أشقائنا في اليمن، نقول لهم حاولوا التقليل من استهلاك القات بالتدريج حتى تتخلصوا كُلية من هذا الإدمان الذي يستقطع ساعات طويلة من وقتكم الثمين ويُنهك اقتصادكم وهو لا يُسمن ولا يُغني من جوع، والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي