جهود مكافحة الإرهاب كما يراها سفير

كان صديقي الأستاذ فهد المقيرن قد أهداني كتابا قيما عن دور المملكة في مكافحة الإرهاب ألفه سفيرنا في لبنان علي سعيد عسيري. الكتاب صدر باللغة الإنجليزية ونشرته دار إكسفورد للطباعة، وهي دار نشر إنجليزية مرموقة. عُرض الكتاب في معرض بيروت للكتاب في الشهر الماضي. وهناك التقى الأستاذ فهد المقيرن بالسفير علي عسيري الذي كان يوقع على كتابه لزوار المعرض. ودار بينهما حوار ذكر فيه المقيرن للسفير أن أول حادث تفجير لعربة جرى في نيويورك! حين فجر أحد الإيطاليين الفوضويين (هكذا أطلق عليه آنذاك، إذ لم يستخدم مصطلح إرهابي بعد) عربة تجرها الخيول كانت محملة بالديناميت في شارع وول ستريت في نيويورك عام 1920م. ومن هذا يتضح أن التفجير بضاعة غربية أصلية وعريقة! كثيرا ما استخدمته المافيا الصقلية، كما استخدمته عصابة ستيرن الصهيونية، ثم استخدمته حكومة إسرائيل كثيرا في قتل واستهداف الفلسطينيين.
صدور الكتاب باللغة الإنجليزية خطوة موفقة من السفير علي عسيري، لأن الحملة الغربية الشرسة على المملكة واتهامها باحتضان الإرهاب منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، كانت تتطلب مثل هذه الجهود التي توجه إلى الغرب بلغته. ولذلك اقترح الأستاذ المقيرن على السفير أن يهدي نسخة من كتابه لرئيس تحرير صحيفة ''ديلي نيوز'' الإنجليزية الصادرة في بيروت رامي خوري، كي يقدمه لأصدقائه حول العالم، وربما كتب الرجل تقريظا عن الكتاب في صحيفته المقروءة في الوسط الدبلوماسي في لبنان وفي عواصم العالم. ولا شك أن إطلاع خوري عليه سيمكنه من الإشارة إلى كثير من الحقائق الواردة في الكتاب أثناء ظهوره على بعض شبكات الأخبار الدولية التي كثيرا ما يظهر فيها.
يأتي كتاب السفير علي عسيري، الذي يقع في نحو 200 صفحة من القطع المتوسط، ليمثل مجهودا موفقا غاية التوفيق لعرض ومناقشة قضية الإرهاب واستعراض جوانبها وأبعادها الجدلية نظريا وعمليا. وقد وفق المؤلف في تسليط الضوء على بعض المفاهيم كالفرق بين الإرهابي والمحارب من أجل الحرية. ناقش المؤلف هذه المفاهيم ليصل إلى وضع تعريف وظيفي للإرهاب. ثم استعرض قضية الإرهاب من حيث السلوك والممارسة، مبينا أغراض وأهداف الإرهاب، ومحددا مفهومه من منظور تاريخي. بعد ذلك، انتقل المؤلف ليناقش قضايا أوسع مثل علاقة الدين بالإرهاب، وما إذا كان الدين قد اتخذ كوسيلة أم غاية في العمليات الإرهابية المعاصرة، موضحا موقف الإسلام من الإرهاب. ثم بين المؤلف أن الدين اتخذ في بعض الحالات غطاء لممارسة الإرهاب من كل الجماعات والديانات. ولم يفته أن يوضح بجلاء المعنى الحقيقي للجهاد في الإسلام ومفهوم الإسلام للتعايش السلمي. ثم يتناول بشيء من التفصيل الأسباب الجذرية للإرهاب في عالمنا المعاصر. مع شرح أسباب تخوف وقلق المسلمين اليوم في جميع أنحاء العالم، من الحملة الإعلامية الشرسة التي تعمم بعض الممارسات الخاطئة عليهم.
ويؤكد السفير عسيري أنه على الرغم من وجود عوامل ومبررات كثيرة لمحاربة الإرهاب، فإن هناك حاجة ملحة للنظر في العوامل الأخرى التي أسهمت في نشوء وانتشار ظاهرة العنف. إنها قضية توجب النظر فيما هو أبعد مما يبدو لنا منها. إذ يجب على المجتمع الدولي - إن أراد العلاج الناجع والدائم لهذه المشكلة - أن ينظر لأوضاع المحرومين في العالم الذين يمثلون أغلبية سكانه، وخاصة في دول العالم النامي بما فيه العالم الإسلامي. علينا أن نظهر قدرا عاليا من الاهتمام باحتياجات هذه الفئة من سكان العالم الذين يعانون بؤسا شديدا بسبب عدم توافر الرعاية الغذائية والصحية والتعليمية، ما أدى إلى انتشار البطالة والفقر بينهم فأصبحوا أهدافا لأصحاب العقول المنحرفة لضمهم لممارسة العنف. كما أن التفرقة والتمييز والممارسات العنصرية أيا كان نوعها تغذي السخط وتفجره. وهكذا فإن فشل المؤسسات الدولية في معالجة جوانب المشكلات السياسية والاجتماعية والثقافية لشريحة واسعة من سكان العالم بشكل عاجل، يسهم في زيادة مظاهر العنف الحاد.
ولعل أهم ما يميز الكتاب هو نجاح المؤلف في وصف واستعراض الجهود الكبيرة التي بذلتها المملكة لمكافحة آفة الإرهاب سواء على المستوى المحلي والإقليمي أو الدولي. إن حكمة التعامل السعودي مع هذه الظاهرة تتجلى في عدم التركيز فقط على أسلوب مواجهة الظاهرة بالعنف والرصاص، حتى لا يتخذ البعض من هذا الأسلوب ذريعة لاحتضان الإرهابيين والتعاطف معهم، فالغرض هو حماية الناس والتأثير في عقولهم لتجنيبهم التورط في ممارسة أو احتضان من يقوم بهذه الأعمال الإرهابية المدمرة لهم وللمجتمع. وقد بسط المؤلف في الفصل الخامس جوانب الاستراتيجية السعودية الثلاثية المبتكرة الذي طبقتها المملكة بنجاح. فمع أن الاستعداد بالقوة اللازمة لمواجهة ظاهرة الإرهاب تظل خيارا قائما، إلا أن الاستراتيجية السعودية تأتي لتعلمنا أن هناك طريقا مهما موازيا لا يقل أهمية وفاعلية في مكافحة هذه المشكلة، تقوم على: (المنع، والعلاج، والرعاية ) بمعنى بذل كل جهد ممكن لمنع الظاهرة ابتداء، ثم علاج ما هو قائم منها، فتقديم أسباب الرعاية للتائبين وعائلاتهم. وهي استراتيجية يمكن للغير الاستفادة منها كما استفادت إندونيسيا.
يحمل السفير علي عسيري درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة بريستون. وكان قد تخرج من كلية قوى الأمن في الرياض عام 1976. كما حضر عددا من الدورات الأمنية والإدارية المتقدمة في كلية الشرطة في هيندون وشرطة مانشستر البريطانية. وحضر دورات تدريبية متعددة في المملكة المتحدة والولايات المتحدة في مجال مكافحة الإرهاب، وأمن السفراء وإدارة الأزمات عالية. ثم أكمل دورة متقدمة في السلك الدبلوماسي في معهد الدراسات الدبلوماسية، التابع لوزارة الخارجية السعودية.
لم ينس السفير عسيري في خضم مهامه العملية، أن يخدم وطنه بالقلم والفكر، فقدم لنا وللمجتمع الدولي كتابا قيما بلغة وأسلوب يفهمه الجميع. شكرا سعادة السفير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي