الإسلام والإعلام.. العرب والمسلمون استنبطوا خطابا اعتذاريا يضعهم في قفص الاتهام رغم براءتهم (3)

كانت أروقة مؤتمر الإسلام والإعلام في جامعة كولورادو الأمريكية تعجّ بالمستمعين، منهم من أتى من أجل المعرفة ومنهم من أتى كي يثبّت موقفه من خلال المداخلات والأسئلة. وما لاحظته وجود أشخاص معينين يهرولون من قاعة إلى أخرى ويثيرون الأسئلة ذاتها في كل مناقشة، وهذه الأسئلة لم تكن من أجل زيادة المعرفة، بل لتوضيح وجهات نظر محددة يلقيها مثيروها وكأنهم شريط جرى تسجيله مسبقا.
وكان المنظمون قد أعدّوا برنامجا حافلا تتخلله محاضرات عامة يلقيها غالبا أناس ذوو باع طويل في الإعلام وكيفية تعامله مع الإسلام، وتم عرض شريط «نيو موسلم كوول»، وهو الفيلم الوثائقي الشهير لجينيفر ميتورينا تيلور الذي يصور وبصورة مدهشة ورائعة الصدام الثقافي والحضاري الذي يواجهه المسلمون في مجتمعات غربية وغريبة عن المحيط الذي نشأوا فيه أو تربوا في كنفه من خلال التركيز على كيفية المواءمة والتقارب بين الإسلام وموسيقى الهيب.
والمسلمون الذين يعيشون في المجتمعات الغربية في وضع لا يحسد عليه. إنهم قد وقعوا فعلا ضحية النظرة الضيقة للإسلام في الغرب التي كما أسلفنا في رسالة الجمعة الماضية جعلت من العنف والإرهاب صفة ميتافيزيقية للإسلام والعروبة. وهكذا وقعوا ضحية لما يسميه الغرب بـ «التطرف الإسلامي»، ولكي يدافعوا عن أنفسهم ويعيشوا حياة عادية في بيئة معادية للإسلام اتخذوا لأنفسهم سبيلين يبدو أنه لا ثالث لهما: الأول يتمثل في التنصل من كل ما يعد الغرب «تطرفا» لدى الآخرين، ويعني بهم العرب والمسلمين. الآخر يتمثل في الخطاب الاعتذاري الذي أصبح يميز الإعلام العربي والإسلامي ليس في الغرب فقط، بل في معظم الدول العربية والإسلامية. والغرب يستمتع بهذا الوضع، الغرب منكب على خلق «الآخر» بين العرب والمسلمين أنفسهم، بينما هم كلهم من وجهة نظره يمثلون «الآخر» فالخطاب الغربي المسيحي، كما علمنا الفيلسوف والمستشرق العربي الفلسطيني إدورد سعيد ينظر إلى الشرق العربي والمسلم من منظار «الآخر». أي الغرب هو الخير والشرق هو الشر. الغرب هو المعرفة والشرق هو الجهل، الغرب هو النور والشرق هو الظلام.
بيد أن بيت القصيد الذي لم يعش إدورد سعيد طويلا كي يلحظه هو كيف أن الغرب استطاع جعل الشرق يقسّم نفسه إلى نصفين، نصف منه ينظر إلى النصف الآخر بمنظار الغرب للشرق نفسه. أي أن الشرق بدأ يأخذ اتهامات الغرب له محمل الجد بدليل أن العرب والمسلمين يؤمنون اليوم بأن الشر والظلام والجهل موجود بين ظهرانيهم. أما الغرب فلن ولن يقبل أن يرى أن فيه من الشر والظلام والجهل والتطرف ما لدى الآخرين. وهكذا استطاع الغرب بجبروته الإعلامي بعد فشله الذريع كمتجبر عسكري تمرير وتطبيق نظرية مفادها أننا سنكون أفضل حالا إن ألغينا الآخر (الشرق) من الوجود، وبما أننا لا نستطيع فعل ذلك فعلينا في أقل تقدير العمل على تغييره تغييرا جذريا. وهذا ما رأيته بأم عيني وسمعته بأذني في مؤتمر كولورادو وفي رأيي المتواضع هذا ما يحصل بالضبط على أرض الواقع، انظر كيف يكفّر ويخوّن العرب والمسلمون الواحد الآخر، بينما الغرب خال من الخونة والكافرين ليس في نظره وحسب، بل في نظر كثيرين من العرب والمسلمين.
وهكذا حاول كل المتحدثين المسلمين والعرب من الذين استمعت إليهم الاعتذار في خطابهم نيابة عن المسلمين والتأكيد المرة تلو الأخرى أنهم كمسلمين لا ناقة ولا جمل لهم «بالمتطرفين»، وكأن التطرف كما قلنا خاصية إسلامية وعربية بحتة تحبل وتلد بصورة طبيعية في العروبة والإسلام، بينما لا حاضنة طبيعية لها في الغرب.
وليسمح لي القارئ اللبيب ذكر بعض النماذج الخطابية دون ذكر الأسماء، كان هناك 11 جلسة عامة يحضرها مئات من المختصين تسعة منها ألقاها عرب ومسلمون، في أحدها أراد صاحب «ذي ناينتي ناين» إعطاء صورة «متنورة وبراقة» عن الإسلام من خلال مشروعه وكيف أن المسلمين بإمكانهم التآلف مع الحضارة الحديثة. ولكن المتحدث كان همه تبيان أن الإسلام بعيد عن التطرف ليس من خلال جوهره بل من خلال التنصل الخطابي عن «المتطرفين المسلمين». والأنكى من هذا أن المتحدث في الوقت نفسه جاهد كي يبعد الصبغة الدينية (الإسلامية) عن مشروعه، أي تناقض هذا!
وفي محاضرة أخرى، حاولت مسلمة تبيان انفتاح الإسلام على الآخر من خلال ما تقوم هي به من أعمال، لكنها رفضت أن تجيب بالإيجاب فيما إذا كانت تلتزم بفرائض الإسلام من الصوم، والصلاة، والزكاة.. وفي جلسة عامة جرت محاولة مستميتة لجرّ الدين خارج الصراع الحالي بين المسلمين والغرب وأن الحروب الحالية إن في فلسطين أو العراق أو أفغانستان أو الشيشان حروب حول الثقافات والحضارات. بمعنى آخر أن اليهود قدموا إلى فلسطين أو بالأحرى مهّد الغرب المسيحي الطريق لقدومهم إلى فلسطين دون أن تفعل التوراة أو «الكتاب المقدس» فعله في ذلك أو أن تشبث المسلمين بقدسهم ومسجدهم الأقصى لا دور للقرآن فيه.
وإلى الملتقى في الجمعة المقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي