المجالس البلدية: مكملة للإدارة!!
منذ سنوات عدة، كانت تركيا تعاني عملة وطنية متدنية جدا، وسوءا في التنظيم، وانعداما للأمن، وشللا سياسيا، يصل إلى حد الفشل، يعبر عنه شارع محبط، بكثرة المسيرات الاحتجاجية على الأوضاع الاقتصادية المتردية. هذه الأيام، الصورة ليست مختلفة فقط، بل تثير العجب. تطور عمراني وإنشائي غير مسبوق، سواء على مستوى البناء أو الطرق. مدن نظيفة حديثة، ومستوى رائع في تنفيذ الطرق السريعة الواسعة، لا تخطئه العين.
المسيرات السياسية، وحركات الاحتجاج التي كانت تغرق إسطنبول وأنقرة، صارت في حكم النادر. صار الزائر يلحظ بسهولة المستوى المتميز للأمن، والتعامل الراقي، بين المواطنين الأتراك أنفسهم، ومع ضيوفهم من السياح، أو القادمين لحضور المناسبات العلمية والثقافية، التي أصبحت ظاهرة شبه أسبوعية لإسطنبول على وجه الخصوص. كذلك اختفت الظواهر التي تسم المدن العربية والإسلامية، مثل مشاهد التشرد والتسول.
السبب في هذه التحولات الحضارية والاجتماعية، يكمن في تفعيل دور المجالس البلدية، التي هي من أهم وأبرز ممارسات العمل الإداري الناجح، ذي الطبيعة الأقرب لأساليب مؤسسات المجتمع المدني. هذا الدور للمجالس البلدية، يكاد يكون ظاهرة تركية متفردة. لقد انتخب المواطن التركي لهذه المجالس، قيادات وطنية، جعلت همها الأول، التنافس في خدمة المواطن التركي وراحته ورفاهيته. الشوارع نظيفة جداً، والمحلات متقيدة بالأنظمة البلدية، مما أنتج ثقافة شعبية عنوانها النظام والنظافة، فعلى سبيل المثال، هنالك سوق شعبي مخصص كل يوم، لفئة من الباعة محدودي الدخل. عند نهاية اليوم، لا تكاد تجد أي مخلفات أو نفايات لأولئك الباعة، بل إن المجالس البلدية، نجحت في جعل التسوق في تلك الأسواق الشعبية المتنقلة، أحد أمتع البرامج الجاذبة للسياح، إضافة إلى دوره في توفير سلع بمتناول أصحاب الدخول المحدودة من المواطنين.
السبب الرئيس، في تطور قطاع الخدمات بشكل عام في المدن التركية، هو حرص أعضاء المجالس البلدية، على خدمة مواطنيهم الذين صوتوا لهم، ولأن الخدمات البلدية، تغطي جانبا كبيرا من احتياجات المواطن التركي، وتعد مؤشراً جيدا لقياس مستوى الأداء الحكومي.
لم تمض أعوام قليلة، حتى صار رؤساء البلديات وأعضاء المجالس البلدية، الذي أثبتوا قدراتهم القيادية، في إدارة مدنهم وانتشالها من حضيض القذارة والتخلف، رؤساء حكومات، وأعضاء في البرلمان، وصارت لهم الأغلبية، بانتخابات، شهد على نزاهتها العالم، بما فيه الدول الغربية، التي لم يسرها أن يصل (وطنيون) حقيقيون.
الناخب التركي أثبت أنه لا يهتم بالشعارات والدعايات الإعلامية، أو الانتماءات الحزبية، بل وحتى الدعوات القومية. الذي يعنيه بالدرجة الأولى، مدى نجاح الحكومة في التصدي لقضايا الاقتصاد والبطالة، والسلم الاجتماعي، والكرامة الوطنية والقومية. استطاعت حكومة حزب العدالة والتنمية، تطبيق شعارها عملياً، فحققت العدالة بين جميع أطياف الشعب التركي، فأٌنصفت حقوق الأكراد وحافظت على الوحدة الوطنية. كما حققت تنمية ضاعفت فيها دخل الفرد التركي، وأدخلت تركيا إلى (نادي الدول العشرين) الأقوى اقتصاديا، وهو ما لم يتحقق، ولا لمرة واحدة منذ إلغاء الخلافة العثمانية، على يد حزب الاتحاد والترقي، بقيادة كمال أتاتورك لأكثر من ثمانين عاما.
على النقيض من ذلك، ما يشاهد في بعض الدول العربية, ممن تملك مصادر للثروات الطبيعية، أكثر مما لدى تركيا، لكنها تعيش واقعا متخلفا، وفقرا لشرائح كبيرة من المواطنين، في وقت يصور فيه الإعلام الرسمي البلد، وكأنه جنة الله في الأرض، بينما الواقع الذي يصادفه الزائر، يكشف عن فوضى وتخلف مريع: بدءا من المطار (الدولي)، والمستوى المتردي من النظافة، حتى في الفنادق (الراقية)، وللعدد الكبير من العاطلين والمتسولين في كل الزوايا، ثم العملة الوطنية التي وصلت قاعا جعلها غير مقبولة في بلدها، فصار الناس يتعاملون بالدولار واليورو. إضافة إلى غلاء، لا يتناسب مع اقتصاد متهالك، ودخول متواضعة.
إن التجربة التركية، بوجهيها الاقتصادي والسياسي، حري بالدول العربية والإسلامية، أن تحتذي بها، خصوصا تجربة المجالس البلدية، القائمة في فلسفتها الجوهرية، على تنافس المرشحين في خدمة مواطنيهم، بعيداً عن المصالح الشخصية، والتحزبات الفكرية والتكتلات الفئوية والقبلية، ذات الشعارات (الوطنية) الرنانة، بما يرفع مستوى الخدمات التي يحتاج إليها المواطن، ويزيد من شفافيتها. هذه إن تحققت سوف تقضي على الكثير من ظواهر الفساد، وتردي الخدمات الأساسية، والظلم الاجتماعي، الموجودة في عالمنا العربي، مما يؤدي إلى الجريمة، والتطرف الفكري.. وانعدام الأمن والاستقرار.